أخطاء "بايدن" في الشّرق الأوسط ربّما بدأت مُبكرةً جدًّا!
بعد بضعة أيّام من غاراتٍ صاروخيّة إسرائيليّة على أهدافٍ عسكريّة في ريف دِمشق الجنوبي، ها هي الطّائرات الأمريكيّة من طِراز “إف 15” تَشُن فجر الجمعة عُدوانًا قالت وزارة الدفاع الأمريكيّة (البنتاغون) إنّه استهدف “قواعد” لكتائب حزب الله العِراقيّة رَدًّا على هجمات صاروخيّة على السّفارة الأمريكيّة في بغداد، وأخرى على قواعدٍ عسكريّة أمريكيّة في مطار أربيل وشِمال العِراق.
“كتائب حزب الله” عِراقيّة، ومن أبرز مُنظّمات الحشد الشعبي، ولا تُخفِي تحالفها مع إيران، فلماذا لا تَرُد الولايات المتحدة عليها وهجماتها داخِل الأراضي العِراقيّة، أو حتّى داخِل الأراضي الإيرانيّة؟
الإجابة على هذا السّؤال سَهلةٌ جدًّا وتتلخّص في أنّ الرئيس جو بايدن الذي أقرّ هذا الهُجوم لا يُريد إحراج حُكومة السيّد الكاظمي العِراقيّة “الحليفة” أوّلًا، ويُحاول عدم استِفزاز إيران التي تنتظر ردّها على دعوةٍ أمريكيّة للحِوار حول برنامجها النووي على أحرّ من الجمر ثانيًا، ومُحاولة تجنّب أيّ ردّ انتقامي على السّفارة والقواعد الأمريكيّة في شِمال وغرب العِراق، سواءً من إيران، أو من حزب الله العِراق ثالثًا.
الرئيس بايدن لم يَكُن من أبرز الدّاعمين لاحتِلال العِراق فقط، وإنّما من المُحرّضين على تفتيته على أُسس عِرقيّة وطائفيّة إلى عدّة دُول باعتباره “إسبارطة الشّرق” الذي يُشَكِّل التّهديد الأخطر للمشروع الصّهيوني، وكان من أكبر المُروّجين لنظريّة برنار لويس في هذا المِضمار.
القواعد والقوّات الأمريكيّة المُتواجدة على الأراضي العِراقيّة “غير شرعيّة”، وطالب البرلمان العِراقي المُنتخب بخُروجها في أسرعِ وَقتٍ مُمكن في تصويتٍ دُستوريٍّ قانونيٍّ في كانون الثاني (يناير) الماضي، وأيّ هُجوم صاروخي يَستَهدِفها يُعتَبر تطبيقًا حرفيًّا لهذا القرار من وجهة نظر المُؤيّدين له، وهُم الأغلبيّة في العِراق.
***
لا تستطيع الإدارة الأمريكيّة التّشكيك في مِصداقيّة هذا البرلمان وشرعيّته، فهو يُجَسِّد تطبيقًا عمليًّا للعمليّة السياسيّة التي فرضتها على العِراق، ولدُستور بول بريمير، الحاكم الأمريكي الأوّل للعِراق الذي أسّس للطائفيّة الحاليّة، وكان عليها أن تكون أوّل المُلتَزِمين بالقرار البرلماني المَذكور، ولكنّها لم تفعل، ولم تَستفِد من دُروس الاحتِلال، وتَكشِف عن جَهلٍ واضحٍ بالمُتغيّرات الجديدة على الأرض.
إذا كان الرئيس الأمريكي بايدن يعتقد أنّ هذه الغارات التي أدّت إلى سفك دماء 22 عِراقيًّا، ستُشَكِّل ورقة ضغط على إيران لدفعها للجُلوس إلى مائدة المُفاوضات للتّوصّل إلى اتّفاقٍ نوويٍّ جديد، أو توفير الحِماية للسّفارة والقواعد الأمريكيّة على الأراضي العِراقيّة، فإنّه واهمٌ، يرتكب خطأً كبيرًا، لأنّ النّتائج ربّما تكون عكسيّةً تمامًا، أيّ زيادة الهجمات على هذه القواعد، وبصواريخ ثَبُتَ دقّتها عندما أصابت قاعدة أمريكيّة جويّة في قلب مطار أربيل في الشّمال العِراقي، وأوقعت إصابات في صُفوف عدد من المُتعاقدين الأمريكيين مُعظمهم من الخُبراء في تكنولوجيا الطّيران الحربي والصّواريخ.
نُدرك جيّدًا أنّ سورية التي تخوض حربًا مُنذ عشر سنوات للحِفاظ على وحدتيها الترابيّة والديمغرافيّة في مُواجهة مُؤامرة أمريكيّة إسرائيليّة كُبرى تهدف إلى تدميرها وتحويلها إلى دولةٍ فاشلة، وتمزيقها طائفيًّا وعِرقيًّا على غِرار ما حدث للعِراق وليبيا واليمن، نُدرك أنّ سورية لا تستطيع مُواجهة الولايات المتحدة القوّة الأعظم ومعها دولة الاحتِلال الإسرائيلي، وحفنةً من الأنظمة العربيّة المُتواطِئة، والرئيس السوري بشار الأسد قال صراحةً إنّ جيشه لا يستطيع مُواجهة دولة عُظمى مِثل أمريكا، بعد احتِلال قوّات الأخيرة لشَرق الفُرات حيث احتياطات وآبار النفط والغاز السوريّة، ومخزون سورية الاستراتيجي من الغذاء والماء، ولكنّه قال ما معناه أيضًا إنّ هُناك خِيارات أُخرى أبرزها انطِلاق حركة مُقاومة عربيّة لإجبار الأمريكيين على الانسِحاب مهزومين مثلما حصل في العِراق وأماكن أُخرى في العالم.
سورية لا تَقِف وحدها، وتنتمي إلى محور مُقاومة بات يفرض نفسه كقوّة إقليميّة عُظمى تملك أذرع عسكريّة ضاربة ومُعزّزة بترسانةٍ عسكريّةٍ ذاتيّة الصُّنع تزدحم بالصّواريخ الدّقيقة والزّوارق الحربيّة السّريعة، والأهم من ذلك العُقول الجبّارة التي أثبتت فعاليّتها في إدارة الأزَمات ومُواجهة الحِصارات، والحُروب المحدودة، علاوةً على قُدرات نوويّة تنمو وتتبلور بشَكلٍ مُتسارعٍ.
روسيا حليفة سورية الرئيسيّة أدانت هذا الهُجوم الأمريكي، ووصفته بأنّه يُشَكِّل انتِهاكًا للقوانين الدوليّة، تمامًا مثلما فعلت تُجاه العُدوانات الإسرائيليّة، ولكن هذه الإدانة “غير كافية”، ويجب أن تكون مصحوبةً بتعزيز الجيش السوري بالمنظومات الدفاعيّة التي تُؤهّله للدّفاع عن سِيادة بلاده، فمن غير المنطقي، أن تطير منظومات “إس 400” إلى كُل أركان الأرض، بينما لا تَصِل إلى سورية وإيران أبرز حُلفاء موسكو القريبتان جدًّا.
***
إدارة الرئيس بايدن، وبمِثل هذا العُدوان المُفاجِئ والمُتسرُع، تُرسل رسالة مُخيّبة للآمال لكُل الذين اعتقدوا بأنّها ستكون مُختلفةً عن إدارة الرئيس دونالد ترامب المُتهوّرة، خاصّةً في مِنطقة الشرق الأوسط، والعِراق والخليج تحديدًا، لأنّ مِثل هذه العُدوانات قد تكون مُقدّمة لحالةٍ أكبر من عدم الاستِقرار، وتصعيد حدّة التوتّر، وربّما جرّ المِنطقة إلى حُروبٍ هي في غنى عنها.
أمريكا ردّت على الهجمات التي استهدفت قواعدها في الشّمال العِراقي، بالهُجوم على سورية، وعليها أن تتوقّع ردًّا انتقاميًّا وشيكًا، ربّما يجعلها، وقوّاتها تندم، وتترحّم على أيّام المُقاومة العِراقيّة لقوّاتها في ذروة احتِلالها عاميّ 2007 و2008، ولا نَستبعِد أن تكون البِداية المزيد من الصّواريخ على السّفارة الأمريكيّة والقواعد الأُخرى في عين الأسد وشِمال العِراق، فمن كان يتَوقّع أن تخسر أمريكا 6 تريليونات دولار وعشَرات آلاف الجرحى والقتلى في غزوها لبَلدٍ عاشَ تحت حِصار تجويعي ظالم خانِق لأكثر من 13 عامًا، واعتقدت بأنّ هذا الغزو سيكون سَهلًا وبِلا أيّ خسائر، أو أقل القليل منها؟
أخطاء الرئيس بايدن في الشّرق الأوسط ربّما بدأت مُبكرةً جدًّا، وأسرع ممّا تَوقّع الكثيرون ونحنُ منهم، واللُه أعلم.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً