من مساوئ الصّدف
من “أسمجِ” النّكت التي نسمعها هذه الأيّام، ولا تُضحِك أحدًا، بِما في ذلك الذين يقفون خلف ترويجها، إعلان محكمة الجنايات الدوليّة الجمعة، إصدار مُذكّرة توقيف بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمسؤوليّته عن جرائم حرب اُرتكبت في أوكرانيا مُنذ بداية الغزو الروسي في شباط (فبراير) عام 2022.
وقالت المحكمة “المُحترمة” في بيانها “إن بوتين مسؤولٌ عن جريمة الحرب المُتمثّلة في التّرحيل غير القانوني لسُكّان (أطفال) والنّقل غير القانونيّ لهُم من المناطق المُحتلّة في أوكرانيا إلى الاتّحاد الروسي”، نقول إنها نُكتة سمجة، لأنّ لا روسيا ولا أوكرانيا، ولا حتّى الولايات المتحدة من أعضاء هذه المحكمة، المُعتَرِفين بشرعيّتها، أو أيّ قرارات تَصدُر عنها، ولكنّها، أيّ هذه المحكمة، تتخصّص بالدّرجة الأُولى في “تجريم” و”مُطاردة” كُل خُصوم الغرب والولايات المتحدة تحديدًا، أمّا المُجرمون الأمريكيّون، من مُرتكبي جرائم حرب تقشعرّ لها الأبدان، فهؤلاء “أبطالٌ” في نظر القائمين عليها، وينامون مُرتاحي البال، وفي قمّة الاطمئنان، لأنّهم لن يتعرّضوا لأيّ مُساءلة قانونيّة أو غير قانونيّة.
***
ومن مساوئ الصّدف، أننا نعيش الذّكرى العشرين للغزو الأمريكيّ للعِراق واحتِلاله، وهو الغزو، وما سبقه من حصارٍ تجويعيٍّ ظالمٍ استمرّ أكثر من 12 عامًا، وأسفر عن استِشهاد مِليونيّ عِراقي على الأقل نسبةٌ عاليةٌ منهم من الأطفال، وأكبر المُتورّطين في هذه الجريمة من قادةٍ وسياسيين مِثل الرّئيسين جورج بوش الابن والأب، وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، وديك تشيني، وما زالوا وجِنرالاتهم يتمتّعون برغدِ العيش في مقرّات إقامتهم الفخمة، ولم نسمع مُطلقًا، أن أيّ منهم ورد اسمه، وملفّاته الدمويّة، في مُداولات هذه المحكمة وأدبيّاتها، والقائمة تطول.
طبعًا لا يُمكن أن ننسى مُجرمي حرب دولة الاحتِلال وعلى رأسهم بنيامين نِتنياهو الذي ارتكب مجازر حرب في قِطاع غزّة والضفّة الغربيّة وجنوب لبنان، وكُوفئ بإعادة انتخابه في الدّولة الديمقراطيّة الوحيدة في الشّرق الأوسط ستّ مرّات، ناهيك عن جِنرالاته وعِصابات دولته ومجازرها في حقّ الشّعب الفِلسطيني.
توجيه الاتّهام إلى الرئيس بوتين بإرتكاب جرائم الحرب يتطلّب استدعاءه للمُثول في قفص الاتّهام أمام قُضاة هذه المحكمة “الدوليّة”، وفقًا لبُروتوكولاتها المُؤسّسة لها، والسُّؤال الذي نتمنّى منهم الإجابة عليه هو كيفيّة إلقاء القبض عليه، ومن قِبَل أيّ قوّات، تحقيقًا لهذا الهدف، أم أنهم، أيّ قادة هذه المحكمة، يتوقّعون أن يأتي إليهم مُتطوّعًا على قدميه حِفاظًا على سُمعته، وإيمانًا بعدالتها، واحترامًا لهذه المحكمة النّزيهة، وثقةً بقُضاتها وإصرارهم على تنفيذ القانون؟
***
إنّها قمّة “المسخرة” وأحد أبرز فصول الكوميديا السّوداء في العصر الحديث، وربّما في كُلّ العُصور السّابقة، فإذا كانت هذه المحكمة لم تستطع جلب أيّ مُتّهم أمريكي أو أوروبي، أو حتّى غير صديق للغرب، فهل تستطيع جلب رئيس دولة عُظمى مِثل الرئيس بوتين؟
جميع مُؤسّسات النظام الدولي الحالي الذي تتزعّمه الولايات المتحدة وتُهيمن عليه، بِما في ذلك الأُمم المتحدة نفسها، مؤسّسات فاسدة، فاقدة المِصداقيّة، وليس لها أيّ علاقة بالعدالة والقانون الدّولي، مُجرّد مُؤسّسات شكليّة ينتفع من وجودها بعض العامِلين الكِبار المُتكرّشين فيها من ذوي المعاشات والامتِيازات الضّخمة، وتحت عُنوان خدمة الفُقراء والمسحوقين.
لا نعتقد أن قرارات هذه المحكمة ستُقلِق كثيرًا الرئيس بوتين، أو حتّى تلفت انتِباهه، ليس لأنّه يملك 6500 رأس نووي وصواريخ أسرع من الصّوت 14 مرّة، وإنّما لأنّه ينشغل هذه الأيّام بمَهمّةٍ عظيمةٍ بالتّحالف مع صديقه الصيني شي جين بينغ لإنهاء العصر الأمريكي الظّالم وأنظمته، ومُؤسّساته، وبناء نظام عالمي جديد ينحاز إلى المظلومين على أنقاضه.. أو هكذا نأمَل ونتمنّى.