من خطّطوا ونَفّذوا “الاستفتاء لم يُخطّطوا لليوم التّالي
تابعنا، مثل غيرنا، المُؤتمر الصّحافي الأول الذي عَقده السيد مسعود البارزاني، رئيس إقليم كوردستان، مُنذ إجراء “الاستفتاء” على استقلال الإقليم، وسَيطرة القوّات العراقيّة والحشد الشعبي على مدينة كركوك، وآبار نِفطها ومَطارها وقاعدتها العَسكريّة، وانتظرنا أن يُعلن تَحمّله مَسؤوليّة كل النّتائج المُترتّبة على هذهِ “المُقامرة”، وإعلان استقالته من الرّئاسة، وربّما من الحياةِ السياسيّة، وتَسليمه الرّاية لمن يَستحقها من قيادات حِزبه، ولكنّه لم يَفعل.
السيد البارزاني اتّهم أطرافًا سياسيّةً داخليّةً باتخاذ قرار انسحاب قوّات “البِشمرغة” من كركوك، بِما سَمح للقوّات العراقيّة الاتحاديّة بالسّيطرة عليها، وأكّد أن الشعب الكورديسيُحقّق أهدافه المُقدّسة قريبًا أو بعيدًا، واليوم هو أحوج إلى توحيد الصّفوف والاستمرار في الدّفاع عن هَويّته وحُقوقِه.
من الواضح، أن السيد البارزاني، كان يُوجّه هذهِ الاتهامات إلى حزب الاتحاد الوطني “الطالباني”، شَريكه في الإقليم، الأمر الذي قد يُحدث شَرخًا كبيرًا في العلاقات بينهما، وحُدوث “طلاقٍ بائن” من الصّعب إصلاحه، وإعادة العَلاقات بين الطّرفين إلى صُورَتِها السّابقة للاستفتاء.
لا نَعرف ما هي الحِسابات التي استند إليها السيد البارزاني في ضَرورة حُدوث المُواجهة العَسكريّة، وتَصدّي قوّات البِشمرغة للقوّات الاتحاديّة العراقيّة التي كانت تتقدّم نحو كركوك مَدعومةً بالحَشد الشعبي، لكن ما يُمكن أن نَعرفه، ومن خلال قراءة مُتأنيّة لمَوازين القِوى الإقليميّة والدوليّة، أن نتائجها لو حَدثت قد لا تَكون في صالح “البِشمرغة” والكورد عُمومًا، في ظِل عَدم وجود غِطاءٍ جَويٍّ، ودَعمٍ أمريكيٍّ واضحٍ وصريح، ولذلك فإنّ خُطوة الانسحاب هذهِ للقوّات الكُورديّة، ربّما تكون حكيمةً في نَظر الكثيرين، لأنها قَلّصت من الخسائر، وحَقنت دماء الطّرفين، المُهاجم والمُدافع معًا.
إقليم كوردستان العراق كان مُوحّدًا خَلف حُكومته حتى يوم إجراء الاستفتاء، ولكنّه ومن خِلال إصرار السيد البارزاني على المُضي فيه، أي الاستفتاء، انقسم إلى إقليمين، إحداهما في السليمانيّة، والثاني في أربيل، واحتمالات الحَرب الأهليّة بين الشّطرين باتت واردةً، بل شِبه مُؤكّدة، في ظِل الاتهامات المُتبادلة بالخيانة، والطّعن في الظّهر.
مُشكلة السيد البارزاني الأساسيّة لم تَعد مع الخارج، والحُكومة المَركزيّة، أو مع الإيرانيين والأتراك، وإنّما مع الدّاخل الكوُردي، سواء ذلك المُوالي لحزب الاتحاد الوطني “الطالباني”، أو أنصار الحِزب الديمقراطي “البارزاني”، إلى جانب تَكتّل أحزاب وتَجمّعات المُستقلّين.
القيادات الكُورديّة، ولا نَقول الشّعب الكُوردي، لا تتعلّم من دُورس التّاريخ، بل نَشك في أنّها تقرأ هذا التّاريخ في الأساس، لأنّها تَقع في المِصيدة نفسها التي يُورّطهم فيها “حُلفاؤهم” الأمريكان والإسرائيليون، في إطار الخُطّة الأبديّة التي أبرز أبجديّاتها تَوظيفهم كأداةٍ ضِد شُعوب دُول الجِوار، والعَرب من بينهم خاصّة.
جميع رِهانات السيد البارزاني لم تَكن في مَحلّها، فقد خَذلهُ الجميع، الإسرائيليون، الأمريكان، حتى الأصدقاء الأتراك، ولا ننسى خُذلان خُصومه الكورد في السليمانيّة وجِوارها، التي تَحدّث عنها بمرارةٍ في مُؤتمره الصّحافي.
السيد البارزاني أجرى الاستفتاء وهو يُسيطر على كركوك، وآبار نِفطها، ومَطارها العَسكري، علاوةً على سنجار وخانقين، الآن خَسر جميع هذهِ المناطق، وبات من المُؤكّد أنه سيَخسر الإقليم الجديد المُنافس المُكوّن من حلبجة، السليمانيّة كركوك، لأن جيل “الطلبانيين الجُدد” سيكون مُختلفًا كُليًّا عن مُعلّمهم الرّاحل جلال الطالباني، الذي كان مع الحَد الأدنى من التّوافق الكُوردي، وإبقاء العلاقة مع أربيل، وتَجنّب الوقوف بحزمٍ ضد الاستفتاء، لأنه يُدرك عواقب هذهِ المَواقف وانعكاساتها على الوحدة الوطنيّة الكُورديّة.
جلال الطالباني رَحل، والسيد البارزاني استغلّ رحيله لرش الكثير من المِلح على الجُرح العَربي المُلتهب، عندما أصرّ على لَفْ تابوته بالعَلم الكُوردي، وليس العِراقي، ناسيًا، أو مُتناسيًا، أنّه كان أوّل رئيس للعراق الفِيدرالي الجديد، وهذا تَصرّف لم يَكن حكيمًا من وِجهة نَظر الشّركاء العَرب على الأقل.
لا نَفهم أسباب هذا الإصرار على فَصم عرى العلاقة مع العَرب، وعَرب العراق بشيعتهم وسُنّتهم خاصّةً، وهم الذين مَنحوا كوردستان العراق دولةً شِبه مُستقلّة، لا يَنقصها غير إعلان الاستقلال رسميًّا فقط، تُصدّر النّفط، وتحتضن سفاراتٍ أجنبيّة، وتُقيم علاقاتٍ خارجيّة، وتَستقبل زُعماء العالم في عاصمتها أربيل، وتَرفع أعلامها، وتَعزف نشيدها الوطني، وتُقلّص دُروس تعليم اللغة العربيّة، لُغة القرآن، في مَدارسها، وتَجعلها اللغة الرّابعة أو الخامسة في الإقليم.
من خطّطوا ونَفّذوا “استفتاء الاستقلال” لم يُخطّطوا لليوم التّالي، أي لما قد يَحصل بَعده، وردود الفِعل عليه، ربّما نتيجة للثّقة الزائدة، والرّهان على ضَعف الدّولة المَركزيّة في بغداد، والدّعمين الأمريكي والإسرائيلي المُطلقين، والبراغماتيّة “الأردوغانيّة” القائمة على المصالح التجاريّة مع الإقليم، وأيًّا كانت الأسباب والدّوافع التي لا نَعرفها، والجِهات التي تَقف خلف كل هذهِ الرّهانات، فإنّها كانت في غَير محلها، وأتت نتائج كارثيّة على أصحابها.
هناك أنباء تتحدّث عن توقيع اتفاق بين السيد هادي العامري، أحد أبرز قادة قوّات الحشد الشعبي، والسيد بافيل طالباني، القيادي في حزب الاتحاد الوطني، تحت إشراف الجنرال قاسم سليماني الذي كان يتواجد في الإقليم على أمل تأجيل الاستفتاء، يَنص على تقسيم كوردستان إلى إقليمين، وبِما يُؤدّي إلى تأجيل حَق الكورد بتقرير المصير لعِدّة سنوات، وربّما لعِدّة عُقودٍ قادمةٍ، وربّما يكون هذا الاتفاق يَقف خلف انسحاب قوّات البِشمرغة التّابعة للسليمانيّة من بعض مناطق كركوك دون قتال، وممّا أدّى إلى تصاعد الاتهامات بالخِيانة.
سَيطرة القوّات الاتحاديّة العراقيّة على كركوك والمناطق الأُخرى، ألغت الاستفتاء ونتائجه عَمليًّا، وبِما يُؤدّي إلى تهيئة الأجواء لبِدء الحِوار بين ممثلي إقليم كوردستان والحكومة العراقية للتوصّل إلى حُلولٍ لجميع المشاكل والخلافات الجديدة منها أو القديمة، وإعادة الثّقة التي تدهورت، ولو بشكلٍ تدريجي، بين العَرب والكورد على أُسس التّعايش والمُساواة، وفي إطار احترام الفيدراليّة والدّستور.
الأشقاء الكورد هُم الأقرب للعَرب هويّةً وثقافةً، وانتماء، ودَورهم في بِناء عراق فيدرالي جديد جنبًا إلى جنب مع أشقائهم العرب والتركمان والآسيويين والأيزيديين، لا غِنى عنه، حتى تعود الهويّة العراقيّة الجامعة المُوحّدة، ويَستعيد العراق مكانته التي يَستحقها في المِنطقة، ونأمل تجاوز كَبوة الاستفتاء هذهِ في أسرعِ وقتٍ مُمكن.