ما هي الظّاهرة الأمريكيّة الجديدة التي تُقلِق بايدن؟
مع اقتراب الحرب الأوكرانيّة من دُخولها شهرها السّادس، وتحقيق القوّات الروسيّة انتصارات عسكريّة في ميادين القِتال أبرزها إحكام السّيطرة على إقليم دونباس جنوب شرق البِلاد، بدأت الصّحف الغربيّة تتحدّث عن تصاعدِ الأصوات التي تُطالب بالبحث عن مخارجٍ سياسيّة لوقف هذه الحرب بأسرعِ وقتٍ مُمكن تقليصًا للخسائر الاقتصاديّة والعسكريّة.
صحيفة “دي فيليت” الألمانيّة المُطّلعة كشفت في تقريرٍ لها على صفحتها الأولى قبل يومين “أن الولايات المتحدة وحُلفاءها يُجرون اتّصالات، ومُناقشات سريّة، لإنهاء الحرب في أوكرانيا، والبحث عن حُلولٍ ومخارج”، وأضافت “أن غالبيّة النّاخبين الأوروبيين يُؤيّدون الحَل الدّبلوماسي”.
وذهبت صحيفة “فورن بوليسي” الأمريكيّة إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أكّدت “أن الرأي العام الأمريكي مُنقسمٌ تُجاه الحرب الأوكرانيّة”، وأن نسبة كبيرة من الأمريكيين بدأوا يُعبّرون عن تأييدهم للرئيس فلاديمير بوتين ويُعارضون إرسال المزيد من الأسلحة لأوكرانيا”، وقالت “إن الكثير من أعضاء الحزب الجمهوري يقفون علنًا إلى جانب روسيا في الحرب أُسْوَةً بالرئيس السّابق دونالد ترامب، وأحد أبرز هؤلاء تاكير كارلسون أشهر مُذيعي محطّة “فوكس” واسعة الانتشار، “الذي يُجاهر بدعمه لروسيا، ويُؤكّد في تصريحاتٍ له أن إدارة الرئيس بايدن تتحمّل مسؤوليّة اندِلاع هذه الحرب بسعيها لتوسيع حلف النّاتو”.
***
صفقات الأسلحة الأمريكيّة والأوروبيّة المُتسارعة للجيش الأوكراني، وكانَ آخِرها بقيمة 400 مِليون دولار، تتضمّن منظومات صواريخ “هيمارس” التي يَبلُغ مداها 80 كم، ربّما تُطيل أمد الحرب، ولكنّها لن تَحسِم المعارك لصالح الرئيس فولوديمير زيلينسكي وحُكومته، والأخطر من ذلك أنها قد تُؤدّي إلى مُواجهةٍ روسيّة أمريكيّة مُباشرة إذا ما جرى استِخدام هذه الصّواريخ لقصف مُدُنٍ روسيّة.
لا نعتقد أن القِيادة الروسيّة ستتجاوب مع أيّ وِساطات لإنهاء الحرب إلا إذا تحقّقت شُروطها بالكامِل، وأبرزها الاعتِراف الغربي باستِقلال إقليم “دونباس” وجُمهوريّتيه الانفصاليّتين، والسّيادة الروسيّة الكاملة على شبه جزيرة القرم، وأكّد السّفير الروسي في لندن في تصريحاتٍ له اليوم السبت أن قوّات بلاده لن تنسحب من جنوب شرق أوكرانيا، وتتخلّى بالتّالي عن المكاسب التي حقّقتها في إطار أيّ حَلٍّ سياسيّ.
الرئيس بوتين أكّد ما قاله سفيره بعد انسِحاب وزير خارجيّته سيرغي لافروف من العديد من جلسات منظومة الدّول العشرين المُنعَقِد في بالي احتجاجًا على الهُجوم الانتقادي الغربي على بلاده، وأكّد “أن روسيا لا تعتزم التّفكير في حَلٍّ وسط قريبًا، وأن استمرار العُقوبات سيُعطي نتائج عكسيّة أبرزها ارتفاع كبير قادم في أسعار الطّاقة”.
الأمر المُؤكّد أن العُقوبات التي فرضتها إدارة بايدن على روسيا، أعطت نتائج عكسيّة تمامًا حتّى الآن، حيث تقوية الاقتصاد الروسي، وإدخال الاقتصاديّات الغربيّة في أزمات التضخّم، وتراجع قيمة العملات الأوروبيّة وخاصَّةً اليورو والجنيه الإسترليني إلى مُستويات مُتدنّية، وغير مسبوقة، مُنذ ما يَقرُب العشرين عامًا، إن لم يكن أكثر، الأمر الذي أدّى إلى غلاءٍ فاحش، وارتفاع مُعدّلات المعيشة.
الخزينة الروسيّة يدخل إليها مِليار دولار إضافيًّا يوميًّا من جرّاء بيع النفط والغاز بسبب ارتفاع الأسعار حيث وصل ارتفاع سِعر الروبل إلى مُعدّلات قياسيّة (أكثر من 56 روبل مُقابل الدولار)، وبدأ الكثيرون في أمريكا يُعيدون نشر مقاطع من فيديوهات يتحدّث فيها الرئيس بايدن بفَخرٍ وسُخرية من انهيار سِعر الروبل في شباط (فبراير) الماضي، بداية دخول القوّات الروسيّة إلى أوكرانيا، كأحد الدّلائل على نجاح العُقوبات، وهزيمة موسكو، اقتصاديًّا (كان سِعر الروبل 144 مُقابل الدّولار في حينها).
عندما يُؤكّد الرئيس بوتين اليوم بأنّه لن يقبل بحُلول وسط، ويقول إنه لم يُلقِ بكُلّ ثقله في هذه الحرب بعد، فإنّ هذا يعني أنه يُريد استِسلامًا كاملًا والرّضوخ لجميع شُروطه في عدم توسيع حلف النّاتو، ونشر منظومات صواريخ باليستيّة على حُدود روسيا، وفي جُمهوريّات الاتّحاد السّوفييتي السّابقة، والاعتِراف بالجُمهوريّتين الجديدتين في إقليم دونباس.
هل سيتجاوب الغرب لهذه الشّروط والمطالب، كثمن لتقليص الخسائر، ووقف الهزيمة بشقّيها العسكري والاقتصادي في أوكرانيا؟
لا نستبعد ذلك، وقد يبدأ هذا التّجاوب بـ”المُرونة”، والبُعد عن الغطرسة، والتخلّي عن وهم الانتِصار بالتّالي، بعد ظُهور نتائج الانتخابات التشريعيّة الأمريكيّة النصفيّة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المُقبل، التي تُؤكّد مُعظم استِطلاعات الرّأي بأنّه لن تكون في صالح الحزب الدّيمقراطي الحاكم.
***
الاقتصاد الأوروبي يعيش هذه الأيّام أزمات غير مسبوقة، عُنوانها الأبرز تراجع الأسواق الماليّة والعملات الوطنيّة، بينما يحدث العكس في دول تحالف دول البريكس (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا) التي يتعزّز نظامها المالي الجديد البديل لهيمنة الدّولار الأمريكي، والذي يستند إلى سلّة عُملات عِمادها الروبل الروسي واليوان الصيني.
شدّ الرئيس بايدن الرّحال إلى الشّرق الأوسط الأربعاء في مُحاولةٍ يائسة للإنقاذ تطبيقًا للمثل الذي يقول “عندما تُفلِس الحُكومات تلجأ إلى دفاترها القديمة”، قد لا تُعطِي ثمارها، أو مُعظمها، خاصَّةً في مِلف الطّاقة، فقد سبق السّيف العذل، وبات من الصّعب إعادة عقارب السّاعة الى الوراء، فأمريكا بعد الحرب الأوكرانيّة ليست مِثل أمريكا قبلها، والفضْل في ذلك يعود إلى “دهاء” الرئيس بوتين و”غباء” الرئيس بايدن.
صحيح أن سُقوط رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون سقط لأسبابٍ داخليّة بعضها يعود لفضائح جنسيّة وأُخرى لسُوء الإدارة وتدهور الاقتِصاد، ولكن لا يُمكِن القفز فوق عامل الحرب الأوكرانيّة، وتداعياتها السلبيّة على الاقتصاد البريطاني والعلاقة الخاصّة بين بريطانيا وأمريكا التي ارتكبت خطأً تاريخيًّا بتوريط نفسها وحُلفائها في هذه الحرب، ولا نستبعد بدء تحسّس الكثير من الزّعماء الغربيين “قُرعتهم” وأوّلهم الرئيس بايدن.. واللُه أعلم.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.