ما هو مصدر القلق المُزمِن لأوروبا هذه الأيّام؟
الاشراق | متابعة.
علّمتنا تجارب الحُروب في مِنطقتنا الشّرق أوسطيّة، وما أكثرها، أنه عندما تبدأ موجة توجيه الاتّهامات من طرفٍ إلى آخر باستخدام أسلحة كيماويّة، فهذا يعني أن الطّرف الأوّل بات على حافّة الهزيمة، وفشل مُخطّطاته التي تُشَكِّل العمود الفقري لخوضه هذه الحرب بالتّالي، والسيناريو السوري وقبله العِراقي يتكرّران في أوكرانيا.
بعد ما يَقرُب من خمسين يومًا على بدء الحرب الأوكرانيّة، خرج علينا الرئيس الأوكراني، وعبر الأجهزة الإعلاميّة الغربيّة الجبّارة الدّاعمه له، بترويجِ تقاريرٍ إخباريّة تتحدّث عن استِخدام القوّات الروسيّة أسلحة كيماويّة في مدينة ماريوبول المُحاصرة، وأن التحقيقات جارية في هذا الصّدد.
من الصّعب علينا ترجيح أو نفي هذه الاتّهامات التي كذّبتها روسيا بشَكلٍ حازم، لأنّنا لا نثق بأيّ رواية في هذا الصّدد، تصدر عن الولايات المتحدة أو أيّ من حُلفائها، لأنّنا كعرب كُنّا ضحايا الكثير من الأكاذيب الكيماويّة والبيولوجيّة خاصَّةً تلك التي جرى استِخدامها لتبرير غزو العِراق وتحشيد أكثر من 70 دولة شاركت قوّاتها فيه، لتوزيع دمه على القبائل، وادّعاء شرعيّة دوليّة مُزوّرة.
***
التقيت الشّاب العِراقي رافد الجنابي عام 2003 بالصّدفة في أحد مقاهي لندن (Riverside studio) قريبًا من مكتبي في حي همرسميث غرب لندن، عندما كان في صُحبة العديد من الصّحافيين الغربيين، لتصوير فيلم وثائقي يُشارك فيه عن حرب العِراق، وقدّم لي نفسه على أنه الشخص الذي زوّد المعلومات والصّور “المُزوّرة” التي استخدمها كولن بأول وزير الخارجيّة الأمريكيّة في حينها أمام مجلس الأمن قبل أيّام من الغزو، حول المعامل البيولوجيّة المُتنقّلة لنظام الرئيس صدام حسين، وتبيّن كذبها لاحقًا، وكان بأول المخدوع يملك الشّجاعة للخُروج في مُؤتمرٍ صحافي والاعتِراف بأن المُخابرات الأمريكيّة استخدمته، وضلّلته، وزوّدته بهذه الصّور والمعلومات، ولم يظهر في العلن مُنذ ذلك الاعتِذار.
رافد الجنابي هذا الذي لم أُصافحه، ولم أُصافح حتى اليوم أيّ من الشخصيّات العِراقيّة التي تآمرت على بلدها، وتواطأت مع المُحتل الأمريكي، كان شابًّا ساذجًا، استغلّت المُخابرات الأمريكيّة حاجته للمال والهجرة، وقدّمته للعالم كخبير كان يعمل في المُختبرات التي تُنتج الأسلحة البيولوجيّة، وآخِر مرّة قرأت عن مآلاته، أنه كان يعمل في مطعم للوجَبات السريعة “بيرغر كينغ” في فرانكفورت.
انتقال منظّمة “الخوذ البيضاء” التي كانت مسؤولة عن الترويج، وتقديم مُعظم الأدلّة المُزوّرة حول استخدام القوّات السوريّة أسلحة كيماويّة في الغوطة وريف إدلب، فتحت فِرعًا في أوكرانيا، وتملك خُبرات كبيرة في هذا المِضمار ربّما يتم اللجوء إليها في الأيّام أو الأسابيع القادمة للاستِفادة من هذه الخُبرات في ظِل عودة الحديث بقُوَّةٍ عن استِخدام الروس لهذه الأسلحة في أكثر من مدينةٍ أوكرانيّة.
يدور هذه الأيّام خِلافٌ بين المُعسكرين الأمريكي والروسي حول تطوّرات الحرب ميدانيًّا في أوكرانيا، فالأمريكان يتحدّثون عن 20 ألف قتيل وتدمير مِئات الدبّابات الروسيّة، ونجاحٍ كبير، وغير مسبوق، للعُقوبات الاقتصاديّة المفروضة على المُقتحمين الروس، بينما يُكذّب الروس هذه الأنباء، ويعتبرونها مُبالغًا فيها، ولا يزيد عدد القتلى عن ألفين في أفضل الأحوال، ويُؤكّدون أن العُقوبات الأمريكيّة على بلادهم جاءت بنتائج عكسيّة تمامًا.
نميل أكثر إلى تصديق الرواية الروسيّة اعتمادًا على المصادر الغربيّة، فصحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانيّة العريقة أكّدت في تقريرٍ لها نشرته قبل ثلاثة أيّام أن هذه العُقوبات وخاصَّةً تجنيد جُزء من الاحتِياطات الروسيّة النقديّة في البُنوك الأمريكيّة والغربيّة قد تُقوّض الدولار الأمريكي، والنظام المالي العالمي المُعتَمِد عليه، أمّا صحيفة “بلومبيرغ” الاقتصاديّة الأمريكيّة المُتخصّصة، توقّعت هذه الحقيقة وقالت في تقريرٍ لها، إن تحقّق روسيا أرباحًا قياسيّة في ظِل هذه العُقوبات بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز والقمح، وبُروز نظام مالي صيني بديل (C I P S) تستخدمه أكثر من 100 دولة في العالم، عِماده اليوان الذهبي، ويتحوّل بشَكلٍ مُتسارع إلى النظام البديل (سويفت) الأمريكي، والفَضْل في كُل ذلك يعود لغباء الرئيس جو بايدن وإدارته.
***
نختم هذه المقالة بالتّحذير الذي ورد في مقالة لفرانك غاردنر مُراسل الشّؤون الأمنيّة في محطّة “بي بي سي” أن خطر لُجوء روسيا إلى استِخدام أسلحة نوويّة تقليديّة (قصيرة المَدى)، وامتِداد الحرب وألسنة لهبها إلى خارج حُدود أوكرانيا، وتحوّلها إلى حربٍ أوروبيّة أوسع بات يُشَكِّل قلقًا للقادة الغربيين، فالرئيس بوتين أكّد أكثر من مرّةٍ في بداية الحرب أن روسيا دولة نوويّة، وعقد اجتماعًا للمجلس القيادي النووي بزعامته قبل إرسال الدبّابة الأولى.
الزعيم القومي الروسي المُتشدّد فلاديمير جيرينوفسكي الذي توفّي قبل أيّام ووضع بوتين إكليل من الزهور على نعشه، كانت آخَر كلماته ونسردها بتصرّف: “أن روسيا لن تُهزَم حتى لو تدمّر العالم، ولن يكون هُناك عالم بُدون روسيا حتى لو وصل الأمر إلى استِخدام كُل ما في التّرسانة النوويّة الروسيّة”.
حرب أوكرانيا لن تتوقّف إلا بتفهّم الغرب للمطالب الروسيّة الأمنيّة وأبرزها عدم تمدّد حِلف الناتو شرقًا، والاعتِراف بضم جزيرة القرم وعدم نصب صواريخ باليستيّة قُرب الحُدود الروسيّة شرقًا أو غربًا أو جنوبًا، وإلى ذلك الحين، نُعيد التّذكير بأنّ الروبل “ملك”، واليوان الصيني “إمبراطور”، والدولار قد يُواجه مصير الليرتين السوريّة اللبنانيّة والتركيّة، وليس على اللهِ بكثير.. والأيّام بيننا.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.