عناق نيويورك الغريب!
كانَ العِناق الذي تَم في أروِقَة الجمعيّة العامّة للأُمم المتحدة بين السيّد وليد المعلم، نائِب رئيس الوزراء وزير الخارجيّة السوري، مع نَظيرِه البحرينيّ، الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، نادِرًا بالفِعل وغَير مَسبوق، ليسَ بسبب حرارَتِه وتَبادُل القُبُلات بين الرَّجُلَين، وإنّما لأنّ قناة “العربيّة” وشقيقَتها قناة “الحدث” هِي من بثّته، ولأكثَر من مرّة على شاشاتِها مع تَعليقٍ لافِتٍ يقول “أنّها خطوة تأتِي ضِمن جُهود إعادَة الدَّور العربيّ إلى المِلَف السوريّ”، دَونَ أي توضيحات أُخرَى لهَذهِ العِبارة المُثيرة للاهتمام والتأمُّل مَعًا.
لا نَعتقِد بأنّ هَذهِ الخُطوة التي أقدم عليها وزير خارجيّة البحرين بعد سَبع سنوات، أو أكثَر، من تصويتِ الدُّوَل الخليجيّة على تَجميدِ عُضويّة سورية في الجامِعة العربيّة، وضُغوط حُكوماتِها على دُوَلٍ عربيّة أُخرَى للسَّير في الطَّريقِ نَفسِه، جاء بمُبادَرةٍ بحرينيّةٍ صِرفَة مَعزولة، وإنّما بالون اختبار مُتَعمَّد مِن قِبَل الشَّق السعوديّ في منظومة مجلس التعاون الخليجي، ولم يَكُن مِن قَبيل الصُّدفَة أن تَحتِفي قناة “العربيّة” التي كانَت “رأس الحِربَة” في التَّحريضِ ضِد السُّلطات السوريّة ودَعم مُحاولات إسقاطِها، والأمر المُؤكَّد أنّ الحُكومة السعوديّة هِي التي سرَّبت هذا الشَّريط، وأوعَزَت بِبَثِّه مَصحوبًا بالتَّعليقِ المَذكور.
***
هُناك عِدّة مُلاحظات يُمكِن التَّوقُّف عندها، ونَراها ضروريّةً لأي مُحاولة لتَفسير، أو قراءَة هَذهِ الخَطوة، لا بُد مِن أخذِها في عَينِ الاعتبار:
ـ أوّلًا: أنّ البحرين لا يُمكِن أن تُقدِم على خُطوَة كهَذهِ دُون أخذ الضَّوء الأخضَر من المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتحدة، ولا نَستغرِب أن يكون صَدَر تكليف لوزير خارجيّتها، باعتبارِها الحَليف الأقل تَورُّطًا في الأزمةِ السوريّة، سِياسيًّا وعَسكريًّا وماليًّا، لفَتحِ قناة حِوار وتَواصُل مع دِمَشق.
ـ ثانيًا: أنّ هذا العِناق جاءَ بعد عقد وزراء خارجيّة دُوَل مجلس التعاون السِّت إلى جانِب وزيريّ خارجيّة مِصر والأُردن، اجتماعًا مُغْلَقًا مع مايك بومبيو، وزير خارجيّة الولايات المتحدة، يوم أمس الأوّل على هامِش اجتماعات الجمعيّة العامّة في نيويورك للتَّحضير للِقاء على مُستَوى القِمّة بين قادَة هَذهِ الدُّوَل الثَّماني في كانون الأوّل (يناير) المُقبِل لإطلاقِ “النِّاتو العَربيّ” الذي سيَضُم هَذهِ الدُّوَل مُجتَمِعَةً بزَعامَة دونالد ترامب.
ـ ثالثًا: باتَ واضِحًا أنّ دُوَل الخليج أدرَكت أنّ الأزَمة السوريّة تَلفُظ أنفاسَها الأخيرة، وأنّ التَّحالُف الأمريكيّ تلقّى هزيمةً كُبرَى، وأصبح بَقاء الرئيس الأسد ونِظامه حتميًّا وخارِجًا عَن أيِّ نِقاشّ، وباتَت مسألة استعادة الجيش العربيّ السوريّ لمُحافَظة إدلب مسألَة أيّام، وربّما أسابيع على الأكثَر.
لعلّها مُحاولة لاستقطاب النِّظام السوري، وإبعاده عن مِحوَر المُقاومة بزعامَة إيران، خاصَّةً في ظِل التَّسريبات الإخباريّة التي أفادَت بأنّ المملكة العربيّة السعوديّة عرَضت صفقة بأكثَر من عشرة مِليار دولار على الرئيس الأسد مُقابَل ابتعاده عن إيران، وكَشَفَ عنها السيد نواف الموسوي، النائِب في البَرلمان اللُّبناني، وأحَد المُقرَّبين جِدًّا في السيِّد حسن نصر الله زعيم “حزب الله”.
المملكة العربيّة السعوديّة التي تقود حاليًّا نِصف مجلس التعاون الخليجي، وتَخوض حَرْبًا خاسِرة في اليَمن إلى جانِب الإمارات، باتَت تُشَكِّل عِبْئًا ماليًّا وأخلاقِيًّا صعب الفَكاك مِنه بالوسائِل العسكريّة، تُدرِك جيّدًا، أنّ سورية تتعافَى، وبدأت تَخْرُج مِن هَذهِ الحرب أكثر قُوّةً بفِعل الدَّعمَين الإيرانيّ والروسيّ (إلى جانب حزب الله)، وإقامَة جُسور حِوار مَعها ربّما يُفيد في أكثَر مِن ميدان، خاصَّةً ميدان الوِساطَة مع إيران في المُستَقبل، سواء لتَخفيض التَّوتُّر مع طِهران، أو إيجاد مَخرَج من مأزَق اليَمن.
واللَّافِت أنّ القِيادَة السعوديّة غَسَلَت يديها كُلِّيًّا مِن المُعارضة السوريّة، وخفَّضت من حملاتها الإعلاميّة ضِد الحُكومة السوريّة، وجمّدت، إن لم يَكُن أنهَت، صِلاتِها مع الهَيئة العُليا للمُفاوضات السوريّة التي استضافَت مقرّها في الرِّياض، ولم يَلتقِ أي مَسؤول سُعودي بقِيادَة الهيئة مُنذ سِتَّة أشْهُر، إن لم يَكُن أكثَر.
***
رُبّما يَكون من غير المُفيد الإغراق بالتَّفاؤل، وتَوقُّع مُصالَحة وشيكة بالتَّالي، لأنّ الولايات المتحدة باتَت هِي صاحِبَة القرار الأهَم في مُعظَم دُوَل الخليج، والسعوديّة والإمارات خصّيصًا، ومِن الحِكمَة انتظار مَعرِفَة ما تطبخه إدارة ترامب للمِنطَقة تحت ما يُسَمَّى التحالف الاستراتيجيّ في الشرق الأوسط (الناتو العربي) ضِد إيران، ورُدود الفِعل العربيّة والإقليميّة المُتوقَّعة على خُطوَة فرض الحَظر على النِّفط الإيرانيّ مَطْلَع تشرين ثاني (نوفمبر) المُقبِل.
القِيادَة السوريّة في دِمشق تَعيش أفضَل أيّامها، فقَد تَمكَّنت مِن استعادَة أكثَر مِن ثمانين في المِئة مِن الأراضِي إلى سِيادَة الدَّولة السوريّة، ورَمت بَلْغَم إدلب شديد الانفجار إلى أحضان خَصْمِها أردوغان بِدَهاء روسي، وها هِي دُوَل الخليج التي قادَت تمويلها الفصائِل المُسلَّحة للإطاحَة بِها ونِظامها، تُحاوَل كسب ودّها، وتَعرِض عليها العَودة إلى الجامِعة العربيّة فتَرفُض وتتَدلَّل!
سُبحان مُغيِّر الأحوال.. ومُغَيِّر المَواقِف.. ومَن يَضْحَك أخيرًا يَضْحَك كَثيرًا.. واللهُ أعْلَم.
d.h