تَكاثُر المُبادرات!
قبل الحديث عن تفاصيل المُبادرة التي أكّدت مِصر طرحها لإنهاء الحرب الحاليّة في قطاع غزة، وتتضمّن ثلاث مراحل تنتهي بوقف إطلاق النار، لا بُدّ من التوقّف عند مسألة على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، أبرزها أن الحُكومات العربيّة تتطوّع دائمًا بدور الوسيط “الحِيادي” وتُقدّم مُبادرات تعمل على تسويقها، وفي بعض الحالات انتِزاع مُوافقة مُسبقة عليها من قِبَل الجانب الفِلسطيني، المُقاوم منه أو المُستَسلِم، الأمر الذي يُعطي الطّرف الإسرائيلي حقّ “الفيتو” على بُنودها، لغياب أيّ ضمانات قويّة لتنفيذها، هذا كان حال مُبادرة السّلام العربيّة، وكُل اتّفاقات وقف إطلاق النّار، وإعادة الإعمار في قطاع غزة، وفي السّنوات العشْر الأخيرة على وجْه الخُصوص.
العدوّ الإسرائيلي ارتكب حرب إبادة وتطهير عِرقي، وقتل أكثر من 20 ألف مدني فِلسطيني، وجرح ما يقرب من الستّين ألفًا، ودمّر 85 بالمِئة من المباني في القطاع، وشرّد اكثر من مِليونين، ولم ينتصر مُطلقًا في هذه الحرب التي دخلت يومها الثالث والثمانين، واحتلّت مرتبة الأطول في تاريخ الصّراع العربي الإسرائيلي، ومع ذلك يأتي بعض العرب لإنقاذه من هذا المأزق، وتحقيق مُعظم شُروطه، وإصدار صكّ براءة له من كُلّ مجازره، وإعادة تبييض صُورته الدمويّة في العالمِ بأسْره.
الإسرائيليّون لم ولن ينتصروا في هذه الحرب، ولم يُحقّقوا أيّ من أهدافهم المُعلنة والسريّة، واستخدموا حرب الإبادة للمدنيين لإرهاب الفِلسطينيين، وسلّطوا عليهم وعلى الحُكومات العربيّة المُجاورة سيف التّهجير لكيّ يحصلوا على كُل مطالبهم من خِلال مُبادرة عربيّة لإنهاء الصّراع في غزة وِفق شُروطهم.
قبل أن نتناول المُبادرة المصريّة المذكورة آنفًا بالتّحليل، لا بُدّ من طرح مضمون بُنود مراحلها الثلاث المُقترحة حسب التسريبات غير الرسميّة التي نشرتها بعض وسائل الإعلام المُقرّبة من السّلطات المِصريّة:
المرحلة الأولى: هدنة إنسانيّة مُدّتها عشرة أيّام تُفرج أثناءها حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” عن كافّة الأسرى الإسرائيليين من النساء والأطفال والمُسنّين، مُقابل إفراج دولة الاحتِلال عن “عددٍ مُناسب” يتم الاتّفاق عليه من الأسرى الفلسطينيين، مع وقف لإطلاق النار في جميع مناطق القطاع، والسّماح بحركة المُواطنين من جنوب القطاع إلى شماله (عودة النازحين)، بما في ذلك حركة الشّاحنات والسيّارات، ووقف كافّة أشكال الطيران الحربي في سماء القطاع، ودُخول المُساعدات بشَكلٍ طبيعيّ.
الثانية: التّفاوض لمُدّة شهر حول إفراج “حماس” عن كافّة المُجنّدات الأسيرات لديها، مُقابل إفراج إسرائيل عن عددٍ من الأسرى الفلسطينيين يتّفق عليه الجانبان، وتسليم كافّة الجثامين المُحتَجزة لدى الجانبين، وتمتدّ هذه المرحلة لسبعة أيّام.
الثالثة: التّفاوض لمُدّة شهر حول إفراج حماس عن جميع الأسرى لديها، مُقابل إفراج إسرائيل عن عددٍ يتمّ الاتّفاق عليه من الأسرى الفلسطينيين، وتُعيد القوّات الإسرائيليّة خِلالها “انتِشار” قوّاتها خارج القطاع مع استِمرار وقف جميع الأنشطة الجويّة.
الرابعة: تشكيل حُكومة تكنوقراط “كفاءات” لمرحلةٍ انتقاليّة (غير مُحدّدة زمنيًّا) تجري خلالها انتخابات في الضفّة والقطاع.
***
لم يصدر حتّى الآن أيّ رفض أو قبول من قِبَل الجانبين الفلسطيني المُقاوم أو الإسرائيلي المُحتل للقطاع، ومُرتكب المجازر والتّشريد لأهله، حسب بيانٍ مِصريٍّ رسميٍّ، أكّد أن المُفاوضات حول هذه المُبادرة جرت مع جناح الخارج لحركتيّ “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ولم يتم أيّ اتّصال بالقِيادة الحمساويّة التي تقود المُقاومة في الدّاخل.
هُناك عدّة تحذيرات أو تحفّظات لا يجب القفز فوقها، أو عدم التوقّف عندها لمُناقشة بُنود هذه المُبادرة المِصريّة في صيغتها الحاليّة:
أوّلًا: هذه المُبادرة لم تنص صراحةً على وقفٍ دائمٍ وفوريٍّ لوقف إطلاق النّار، وانسِحابٍ شاملٍ للقوّات الإسرائيليّة المُحتلّة قبل الانخِراط في أيّ مُفاوضات حول تبادُل الأسرى.
ثانيًا: ما هو مطروح حاليًّا هو “هُدن مُتَدحرجة” وبُدون أيّ ضمانات دوليّة، أو من الدّول العُظمى لترجمتها على الأرض بدقّة.
ثالثًا: اللّافت أن هُناك شُروطًا صارمة تُحتّم على الجانب الفلسطيني الإفراج عن شرائح الأسرى الإسرائيليين بدقّة، وعدم وضع أيّ شُروط على هُويّة الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم الإفراج عنهم في المُقابل وإعدادهم، وترك الأمْر للمُفاوضات.
رابعًا: سُقوط نظريّة “الجميع مُقابل الجميع” التي طرحتها فصائل المُقاومة كشَرطٍ أساسيٍّ لمُعالجة قضيّة الأسرى، وما طرحته المُبادرة هو الإفراج عن جميع الإسرائيليين دُونَ شُروط، ولا ذِكر واضح ومُحدّد للجميع الفِلسطيني، الأمر الذي قد يعني عدم التِزام إسرائيلي صارم بالإفراج عن أسرى كِبار مِثل مروان البرغوثي القائد الفتحاوي الشّهير، وأحمد سعدات أمين عام الجبهة الشعبيّة لتحرير فِلسطين، علاوةً على الأسرى التي تصفهم دولة الاحتِلال بالمُلطّخة أيديهم بالدّماء.
رابعًا: لا يُوجد نص صريح ببقاء حركة “حماس” بالسّلطة في القطاع بعد انتِصار 7 تشرين أوّل (أكتوبر) وهزيمة الغزو الإسرائيلي للقطاع، وترك هذا البند الرئيسي مُغَمْغَمًا.
خامسًا: أثناء كِتابة هذا المقال أعلنت كتائب القسّام في بيانٍ لها “أن وقف العُدوان على قطاع غزة أولويّة بالنّسبة لها” مُجَدِّدَةً “موقفها الرّافض لأيّ صفقة تبادل أو مُفاوضات دُونَ تحقّق هذا الشّرط”، جاء هذا البيان على لسان أبو عبيدة النّاطق باسمها، علاوةً على إعلانه تدمير 825 آليّة عسكريّة بين ناقلة جُند ودبّابة وجرّافة وشاحنة ومركبة مُنذ بداية العُدوان البرّي.
سادسًا: كشفت القناة 12 العبريّة أن مجلس الوزراء الحربي سيُناقش “اللّيلة” مُبادرة قطريّة جديدة مُختلفة عن سابقاتها للإفراج عن الأسرى المُحتَجزين في القطاع، ولم يرد أيّ ذِكر عن المُبادرة المِصريّة، فهل هذا تضاربٌ في المُبادرات، وغياب التّنسيق بين الوُسَطاء أصحابها، أيّ الوسيطين المِصري والقطري؟ وما هي بُنود المُبادرة القطريّة الجديدة؟
***
تَكاثُر هذه المُبادرات، وفي هذا التّوقيت، وبمُباركةٍ أمريكيّةٍ غير مُعلنة، وفشل دولة الاحتِلال في تحقيق أيٍّ من أهدافها المُعلنة، يُؤكّد في رأينا انتِصار المُقاومة في القطاع، والانتِصار الكبير والمِحوري لا يُمكن أن يتأتّى إلّا بتقديم تضحياتٍ كبيرة، وإرادة حديديّة بعيدة النّظر لمُقاومة الاحتِلال.
حكيمٌ صينيّ لخّص ما قُلناه آنفًا في عبارةٍ جميلةٍ ومُعبّرة تقول “عدم انتِصار القويّ هزيمة، وعدم هزيمة الضّعيف انتِصار”، وهذا ما يَحدُث في قِطاع غزة الآن، وسيمتدّ إلى الضفّة المُنتَفِضَة، وجنوب لبنان، والعِراق، واليمن.. والأيّام بيننا.