هل اقتربت مصر من الحل العسكري مع اثيوبيا؟
عوّدتنا تجارب الحُروب، القصيرة أو طويلة الأمد، التي انفجرت وقائعها في منطقة الشرق الأوسط، على مدى السّبعين عامًا الماضية، أنّ من يُطلِق رصاصتها الأولى لا يُعلِن ذلك في مُؤتمر صحافي، واستِجابةً لضُغوط وسائل الإعلام، ومقالات بعض الكتّاب، فهذه من أهم أسرار الدّولة، وغالبًا ما نَصحُوا من النّوم فجرًا على قصف الطّائرات، وهدير جنازير الدبّابات التي تخترق الحُدود وتحتل المُدن، وانفجارات قذائف المدفعيّة، وكان الاستِثناء الوحيد عُنصر المُفاجأة في حرب العاشر من أكتوبر رمضان عام 1973 عندما اقتحمت القوّات المِصريّة خطّ بارليف عصر ذلك اليوم، وربّما كانَ هذا من أبرز أسباب نجاحها.
كل يوم يَمُر تزداد التوقّعات باحتماليّة بدء الهُجوم المِصري السوداني المُشتَرك لضرب سدّ النهضة الإثيوبي بطَريقةٍ أو بأُخرى، وحسب المُخطّط الاستراتيجي، لمنع إكمال السّلطات الإثيوبيّة للمرحلة الثّانية من ملء خزّانه بالمِياه، وتعريض أكثر من 40 مِليون من مُواطني البلدين لأخطار المجاعة والفيضانات، في ظِل انهِيار كُلّ الوِساطات، والأمريكيّة آخِرها، في التّوصّل إلى حلٍّ سياسيّ بسبب التَّعنُّت الإثيوبي.
***
السيّد مصطفى حسن الزبير كبير المُفاوضين في الحُكومة السودانيّة أكّد أمس أنّ إثيوبيا بدأت فِعليًّا في تنفيذ المرحلة الثّانية من مياه السّد، وستكتمل هذه العمليّة نهائيًّا في تمّوز (يوليو) وآب (أغسطس) القادمين، وهذا يعني أنّ موعد ساعة الصّفر قد اقترب جدًّا إذا كانت الدّولتان، أيّ مِصر والسودان، قد اتّخذتا قرار الحرب فِعلًا، وإذا لم تتحرّكا فإنّ شعبيهما الذين يعيشان حالة الاحتِقان قد يتحرّكا ضدّهما.
للمرّة الثانية تُجرِي كُل من السودان ومِصر مُناورات عسكريّة بمُختلف أنواع الأسلحة في أواخِر شهر أيّار (مايو) الماضي قُرب المناطق المُحاذية للسّد في الجانب السوداني، ويبدو أنّ الحُكومة الإثيوبيّة لا تعبَأ بمِثل هذه المُناورات التحذيريّة المِصريّة السودانيّة، وتواصل الاستِهتار بها من خلال قراراتها الاستفزازيّة، وآخِرها إعلان آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا قبل يومين أنّ حُكومته ستبني مئة سد على النّيل الأزرق في العام المُقبل، وهذا يُوضِّح، بل يُؤكّد، أنّ مشروع سدّ النهضة ليست محصورةً مَهمّته في توليد الكهرباء وإنّما يأتي في إطار استراتيجيّة إثيوبية للتَّحكُّم في مِياه النّيل وكميّاته وتوظيف أكبر كمية منها في مشاريع زراعيّة دُون أيّ اعتبار للمصالح المائيّة السودانيّة والمِصريّة.، إلا إذا كانت دفعت المُقابل المالي.. أيّ المسألة مسألة بَيع وشِراء.
لا أحَد في مِصر يَملِك معلومات مُؤكّدة عن خطّة المؤسّسة العسكريّة المِصريّة للتّعاطي مع هذا التّهديد الوجودي الإثيوبي لمِصر والسودان وحُقوقهما المائيّة، ولا تُوجَد أيّ مُؤشّرات تُوحِي بأنّ هُناك حالةً من التّعبئة للجبهتين الدّاخليّتين للحرب، وهذا ليسَ مُفاجِئًا بالنّسبة إلينا الذين عِشنا في مِصر زمن حرب أكتوبر 1973، فقد كانت الحياة تسير بشَكلٍ طبيعيّ، ولم تَكُن هُناك أيّ مُؤشّرات على التّوتّر أو إقدام الحُكومة على أيّ تعبئة للرّأي العام، واتّخاذ إجراءات طوارئ تموينيّة، ولا نعتقد أنّه سيَحدُث أيّ خُروج عن هذه القاعدة، إذا قرّرت القِيادة المِصريّة اللّجوء للخِيار العسكري للتّعاطي مع الغطرسة الإثيوبيّة، فالكِتمان هو “كلمة السِّر” فيما يبدو.
الرئيس عبد الفتاح السيسي ابن المؤسّسة العسكريّة المِصريّة يختلف عن مُعظم الرّؤساء الذين سبقوه مِثل جمال عبد الناصر، أو حتّى محمد أنور السادات، لأنّ أُسلوبه مُختلف عُنوانه الأبرز الاختِصار في الكلام، وتجنّب الخِطابات الطّويلة جدًّا، والبُعد عن التّهديد النّاري، والأهم من ذلك كظم الغيظ، وربّما هذا ما يُفَسِّر عدم قرع أجهزة الإعلام المِصريّة طُبول الحرب بالطّريقة المُتوقّعة في مِثل هذه الحالات، لكنّ الرئيس السيسي تحدّث عن خطّين أحمرين مُهمّين، الأوّل في قاعدة سيدي براني قُرب الحُدود الليبيّة عندما حذّر من عواقب أيّ اقتِحام لمدينة سرت، والثّاني عندما قال في 30 آذار (مارس) الماضي “إنّ مِياه النّيل خَطٌّ أحمر ولن نُفَرِّط بنُقطة مِياه مِصريّة واحدة، وأيّ مساس بهذه المِياه سيكون له ردّ فِعلٍ يُهَدِّد استِقرار المِنطقة بالكامِل”.
هُناك مُؤشِّرات كثيرة تُؤكّد أنّ مِصر بدأت تستعيد دورها القِيادي في المِنطقة بشَكلٍ مُتسارع، فقد باتت البوّابة الوحيدة والأقوى إلى قِطاع غزّة والقضيّة الفِلسطينيّة بالتّالي، وأبعدت كُلّ القِوى الإقليميّة الأُخرى بِما في ذلك قطر وتركيا، وأمّنت جبهتها الغربيّة الليبيّة عندما همّشت خُصومها وطوّقت أخطارهم، وأقامت علاقات وثيقة مع مُختلف القِوى الأُخرى، وأمّنت، وهذا هو المُهم، جبهتها الداخليّة، بالقضاء على الإرهاب، واضطرّت إدارة الرئيس جو بادين مُكرَهةً على فتح قنوات الحِوار معها، واستِجداء دورها ونُفوذها لوقف الحرب الأخيرة في القِطاع بطَلبٍ إسرائيليّ.
***
لا أحد يستطيع أن يتنبّأ بدقّة بالخطوة المِصريّة السودانيّة المُقبلة المُتعلّقة بكيفيّة التّعاطي مع العُدوان الإثيوبي على الحُقوق المائيّة للبلدين، ولكن ما يُمكِن أن نَجزِم به بأنّ مِصر التي اخترق جُنودها خطّ بارليف الذي يُعتَبر أكبر بكثير من سدّ النهضة، وأخطر من الزّاوية العسكريّة، ودمّروه، وهزَموا جيشًا إسرائيليًّا كانَ يعتقد الكثيرون أنّه لا يُهزَم، لن يتَردَّد، وبمُساعدة الأشقّاء السّودانيين، في تدمير سدّ النهضة مهما كانَ الثّمن، ومنع تكريس سابقة التَّحكُّم في مِياه نهر تدفّقت بحُريّةٍ لملايين السّنين دون انقِطاع.
ما يُؤلِمنا أنّ مِصر التي خاضت حُروب العرب جميعًا ودعمت كُلّ قضاياهم، أثناء فترة الاستِعمار وبعدها، تَجِد نفسها تَقِف وحدها تقريبًا في مُواجهة هذا التّحدّي الإثيوبي، وخاصّةً من قِبَل مُعظم حُلفائها في منطقة الخليج التي تحوّل بعض حُكّامها إلى “وسطاء” في الأزمة حِمايةً لاستِثماراتهم، وكأنّهم سويديّون أو سويسريّون.
مثلما كانت دِماء الشّهداء أغلى من النّفط في حرب تشرين أكتوبر، فإنّ مِياه النّيل ودِماء الشّهداء التي قد تُسفَك دِفاعًا عنها أغلى في رأينا من النّفط واستِثماراته في سدّ النهضة أيضًا في حال اندِلاع الحرب، سواءً اختلف البعض مع مِصر وحُكومتها أو اتّفق، فعِندما يكون الخِيار بين مِصر والسودان من ناحيةٍ وإثيوبيا وإسرائيل في النّاحية الأُخرى المُقابلة، فالعرب جميعًا يجب أن يَقِفوا في الخندق المِصري السوداني دُونَ تَرَدُّد، فالحُكومات ذاهبةٌ والشّعوب والدّول باقية.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.