خِطابُ “الوداع” الأخير!
خِطاب الرئيس الفِلسطيني محمود عبّاس الذي ألقاهُ في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة “لم يقلب الطّاولة”، ولكنّه تضمّن عودةً “خجولةً” لبعض المناطق المُحرّمة التي تخلّت عنها السّلطة الفِلسطينيّة مُنذ توقيع اتّفاقات أوسلو في أيلول (سبتمبر) عام 1993، فربّما تغيّرت اللّهجة قليلًا، ولكنّ العبرة تظل دائمًا بالأفعال، واليوم التالي والتطبيق على الأرض، وهذا ما نستبعده بالنظر إلى تجاربنا مع خِطابات الرئيس السّابقة، وقرارات المجلسين المركزي الوطني الفِلسطيني التي وقف خلفها، واعتَقدنا مُخطئين أنها ستُغيّر كُل المُعادلات وتعود بالقضيّة إلى الطّريق الصّحيح.
***
هُناك عدّة محطّات رئيسيّة، وجديدة، وردت في خِطاب الرئيس عبّاس تعكس تغييرات “نظريّة” مُهمّة لا بُد من التوقّف عندها لمُحاولة استِقراء المُستقبل:
الأولى: التمسّك بالوصاية الهاشميّة على المقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في مدينة القدس المحتلّة، وهذه هي المرّة الأولى التي يلتزم فيها رئيس السّلطة ومنظّمة التحرير بهذه الوِصاية، وبمِثل هذا الوضوح، ومن على منبر المنظّمة الدوليّة، فما الذي حدث؟
الثانية: المُطالبة بتنفيذ قراريّ الأمم المتحدة رقم 181 (التّقسيم) ورقم 194 (حقّ العودة للاجئين الفِلسطينيين فورًا)، بعد نِسيانٍ مُتعمّد لها طِوال الثّلاثين عامًا الماضية.
الثالثة: التأكيد على أن “إسرائيل” دولة فصل عُنصري، وتساءل: لماذا لا يُعاقبها المُجتمع الدولي؟ فإذا كان الحال كذلك، لماذا الاستِعداد للتّفاوض معها فورًا؟
الرابعة: تأكيده على أن اتّفاقات أوسلو لم تعد قائمةً على أرض الواقع بسبب عدم التِزام “إسرائيل” بها، وانتِهاكاتها المُتصاعدة في الأراضي المحتلّة، وهذا يعني عمليًّا حلّ السّلطة التي قامت على أساسها، فلماذا لم يقلها علنًا وهو الذي هدّد بذلك في “خِطاب المُهلة” الذي ألقاهُ من على المنبر نفسه العام الماضي؟
الخامسة: التّهديد بالبحث عن وسائلٍ أُخرى للحُصول على الحُقوق الفِلسطينيّة لأنّه لم يتم تطبيق قرار واحد من قرارات الأمم المتحدة، ولكنّه أضفى غُموضًا على هذا التّهديد عندما أكّد أنه لن يلجأ إلى السّلاح، ولا العُنف، وتعهّد بمُحاربة “الإرهاب” مع المُجتمع الدولي وطالب بحمايته.
السّادسة: الذّهاب إلى محكمة الجنايات الدوليّة لمُحاكمة مُجرمي الحرب الإسرائيليين الذين ارتكبوا المجازر في حقّ الشّعب الفِلسطيني وما زالوا، والسُّؤال متى؟
السّابعة: التقدّم بطلبِ العُضويّة الكاملة لدولة فِلسطين في الأمم المتحدة ومُنظّماتها، في تَحَدٍّ واضحٍ لمطالبٍ أمريكيّة وإسرائيليّة بعدم الإقدام على هذه الخطوة.
***
يُمكن أن يكون هذا خِطاب “الوداع” للرئيس عبّاس، وأعمق تعبير من نوعه عن حالة الإحباط وخيبة الأمل التي يعيشها، وتقديم “عرض حال” إلى المُجتمع الدولي من على منبر الجمعيّة العامّة، رُغم اتّهامه له باتّباعه معايير مُزدوجة لا تُطبّق عندما تتعلّق القرارات بتل أبيب، ولكنّه خِطابٌ جاء مليئًا بالثّقوب والثّغرات، ولا يرتقي إلى مُستوى حالة الخُذلان التي يعيشها الرئيس وشعبه وسُلطته من جرّاء فشل رِهاناته على السّلام مع “شُركائه” الإسرائيليين، وتقديم البدائل النّقيضة والعمليّة بالتّالي، والعودة إلى مُقاومة الاحتِلال بكُلّ أشكالها، على غِرار ما فعَل الرئيس ياسر عرفات بعد توصّله مُتأخِّرًا إلى النّتيجة نفسها بعد مُفاوضات كامب ديفيد الفِلسطينيّة وحاول من خِلال عودته للمُقاومة والانتِفاضة المُسلّحة إنقاذ الكثير من سُمعته، وإرثه والتّكفير عن ذُنوبه، وتنازلاته في اتّفاقات أوسلو، الأمر الذي دفع بالإسرائيليين إلى اغتياله.
الرئيس عبّاس اعتبر المُقاومة “إرهابًا” في خِطابه عندما تعهّد بمُحاربتها مع المُجتمع الدولي، وتعهّد بعدم اللّجوء إلى السّلاح والعُنف، الأمر الذي يدفعنا إلى سُؤاله: ما هي البدائل التي ستبحث عنها لتحصيل الحُقوق الفِلسطينيّة بعد فشل خِيارك الأسلوي التّفاوضي في حالِ إسقاط كُل الخِيارات الأُخرى التي سارت على طريقها كُل الشّعوب المحتلّة؟
ما حَدَث ويَحدُث في نابلس وجنين قبل أيّام من رُضوخ قوّات الأمن الفِلسطينيّة للشّروط والإملاءات الإسرائيليّة، واعتقال المُطاردين والمُقاومين واغتِيال بعضهم، ينسف مُعظم ما جاء في خِطاب الرئيس عبّاس حتى الآن، فإلغاء التّنسيق الأمني هو الكلمة الفاصلة، والسّماح بالعودة أو عدمها إلى المُقاطعة في رام الله هو مِعيارٌ لمِقياس جديّة رِسالته هذه وكيفيّة تعاطي دولة الاحتِلال معها.
تهديدات الرئيس عبّاس الواردة في خِطابه جاءت بلا مخالبٍ أو أنياب، وربّما لا تتعدّى كونها صرخة ألم في سوق عُكاظ الأُممي، ونرجو أن نكون مُخطئين.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.