عام على حرب أوكرانيا: الأيديولوجيا للأميركي والأمن للأوروبي
كان واضحاً من خطابي كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي جو بايدن عشية مرور سنة على الحرب الأوكرانية، أن الصراع في أوكرانيا تحوّل فعلاً إلى صراع عالمي، إذ أراد كل طرف أن يعطيه عناوين خاصة، منها أنه صراع أيديولوجي بين رؤيتين للعالم وصراع للهيمنة، ومنها استدراج التاريخ لكشف أسس الصراع المستمرة منذ القرن التاسع عشر.
ولعل الخطابين المتقابلين يعكسان رغبة كل طرف في تسويق رؤيته للصراع العالمي الدائر حالياً في أوكرانيا، وهو على الشكل التالي:
التصور الأميركي: الصراع أيديولوجي
"الصراع العالمي الحالي هو بين الديمقراطية والديكتاتورية". هذا هو الشعار الذي لطالما رفعه بايدن منذ مجيئه إلى الحكم، فحاول رسم الصراع العالمي بمفاهيم أيديولوجية، لكونها الأقرب والأقدر على تأليب الرأي العام في الغرب وحشده في الصراع العالمي الجديد، ولعجز خطاب "التهديدات الأمنية" عن كسب التأييد في الداخل الأميركي بعدما استخدمه جورج بوش بصورة مفرطة لتبرير حروبه في الشرق الأوسط، بشكل بات من المتعذر استخدامه لتبرير انخراط الولايات المتحدة في حروب بعيدة عن أرضها مجدداً.
في خطابه الأخير في وارسو، كانت محاولة بايدن إعادة الصراع الأيديولوجي إلى الواجهة واستعادة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي السابق (مع روسيا اليوم) واضحة، وذلك لإعطاء الزخم الشعبي والقيمي للصراع. قال بايدن: "هجوم روسيا على أوكرانيا هو الأكثر همجية"، مؤكداً أنّ بلاده "ستدافع عن الديمقراطية وحق الأوكرانيين في العيش بحرية"، وأن "الديمقراطية ستنتصر حتماً".
في المقابل، رفض بوتين في خطابه تقسيم العالم إلى "دول حضارية ودول أخرى"، وهو ما يحاول الغرب أن يفعله في رسمه صورة الصراع، معتبراً أن من حق أهل الدونباس أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وأن يطلبوا مساعدة روسيا لتخلّصهم من اعتداءات النازيين الجدد في كييف المدعومين من الغرب.
وأكد أن هدف الغرب هو السيطرة والهيمنة وسحق روسيا، وأنَّ الضحايا البشرية هي أضرار جانبية لكسب الأموال، متذرعين بالديمقراطية لتحقيق مشروعهم.
في المقابل، لم يخلُ خطاب بوتين من محاولة إكساب الصراع بعداً أيديولوجياً مختلفاً عن تقسيم "ديمقراطية/ ديكتاتورية" الذي يحاول الأميركيون أن يعتمدوه. على العكس، اعتبر بوتين أنَّ الصراع الأيديولوجي الحالي هو صراع قيمي بين قيم العائلة (اتحاد بين الرجل والمرأة) والوطن (الأم) والله (الأب) التي تتمسك بها روسيا والعديد من الدول في العالم، وقيم غريبة تحاول تدمير العائلة واضطهاد المتدينين والترويج للمثلية الجنسية وتدمير المجتمع والتربية السليمة للأطفال.
التصور الأوروبي: الصراع حول الأمن
بعكس الولايات المتحدة البعيدة جغرافياً عن روسيا وعن بؤرة الصراع في أوكرانيا، يعتمد الأوروبيون مقاربة مختلفة للصراع الدائر حالياً في أوكرانيا، هي الأمن. يسوّق الأوروبيون أنَّ هناك تهديداً وجودياً يشكّله الروس لدول أوروبا، ويرون أن "روسيا تهدّد وتعتدي على جيرانها، كما فعلت دائماً خلال تاريخها". لذلك، هم يدعمون أوكرانيا ويقاتلون دفاعاً عن الغرب وأوروبا على الأراضي الأوكرانية.
في المقابل، كان لبوتين مقاربة أمنية مختلفة أعاد فيها الصراع في أوكرانيا إلى كره تاريخي أوروبي لروسيا مستمد من تاريخ من الصراع بين الطرفين منذ القرون الوسطى. وقد استفاض في وصف "الخداع الغربي" في اتفاقيات مينسك، إذ اعتمدوا "الدبلوماسية كمسرحية" لتحضير مسرح الحرب وتسليح أوكرانيا لقتال روسيا وهزيمتها، فيما كانت الأخيرة مؤمنة بالمسار الدبلوماسي طيلة الوقت، وكانت تطالب بـ"الأمن غير المجزأ"، لكنهم رفضوا وبنوا مئات القواعد العسكرية لتطويقها. لذا، فإن ما يحصل هو "دفاع عن النفس" ووقف لحرب "شنوها عليها" ولمنع الغرب من اقتطاع مساحات من "أراضيها التاريخية منذ القرن الـ19".
ولعلّ ما يفيد بوتين في تسويق هذا التوصيف للرأي العام هو ما أعلنته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا هولاند، بقولهما إنَّ اتفاقيات مينسك عام 2014 كانت "خدعة" تهدف إلى منح أوكرانيا "الوقت الكافي" لتستعد للحرب ضد روسيا.
وفي موضوع تهديد الأمن القومي الذي تشكّله الحرب، كان بوتين واضحاً في رسالته للغرب بأن روسيا لا يمكن هزيمتها عسكرياً، وذهب أبعد من ذلك بتهديد الغرب بأن إعطاء كييف صواريخ بعيدة المدى يعني أن على الروس اكتساب المزيد من الأراضي الأوكرانية لإبعاد خطر الصواريخ عن الأراضي الروسية.
ولعل تعليق مشاركة روسيا في معاهدة "ستارت" الجديدة لعام 2010 تأكيد على أن الهزيمة العسكرية الإستراتيجية لروسيا التي يريدها الغرب لن تحصل حتى لو اضطر الروس إلى استخدام السلاح النووي.
في النتيجة، للحرب العالمية الدائرة في أوكرانيا اليوم أبعاد أمنية وسياسية وأيديولوجية تاريخية، ولم يكن العالم ينتظر قول بوتين إنها تحولت إلى "حرب عالمية"، فقد كانت كذلك منذ الأيام الأولى لاندلاعها، وهو ما أراده الأوروبيون والأميركيون الذين "قرّروا وقف المفاوضات لأنهم كانوا يريدون تحطيم بوتين بدلاً من التفاوض"، بحسب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت الذي قاد وساطة بين الطرفين في الأيام الأولى للحرب.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.