ما بين التّطبيع و"صفقة القرن".. الآتي أخطر
فجأة، ومن دون مقدمات، دبّت الحياة في حملات "دعم التطبيع مع إسرائيل" في الدول العربية، وبات الحديث الإعلامي والسياسي من دون وجل ولا خجل حول ضرورة استفادة الدول والشعوب العربية من علاقات جيدة مع "إسرائيل".
ترافقت تلك الحملات مع ظهور مسلسل "أم هارون" على الشاشة العربية في رمضان، مع ما يسوّقه من ضرورة قراءة التاريخ العربي من زاوية أخرى، لإثارة التعاطف مع اليهود في الدول العربية، باعتبارهم مواطنين تمّ التمييز ضدّهم وتهجيرهم، علماً أن هذه الحماسة والحمأة المستجدة لا تبدو مستغربة ومثيرة للتساؤل إذا ما قرأناها بالتكامل والتكافل كجزء لا يتجزأ من تسويق "صفقة القرن" التي تحاول إدارة الرئيس ترامب فرضها على الفلسطينيين والعرب.
وفي قراءة متأنّية من زاوية مختلفة لـ"صفقة القرن"، لفهم السياق الإعلامي والثقافي المستقبلي الذي ستسير فيه الخطة خارج الإطار الأمني، نرى أن القادم من الأيام سوف يكون مرهوناً بقدرة داعمي الصفقة على تطبيق الشق الأخطر المرتبط بها، والمؤدي الى التطبيع، وذلك ضمن ما يلي:
1- ضرورة البدء بالتطبيع "على الفور"
على الرغم من أن وثيقة "صفقة القرن" تعترف بأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يمنع التطبيع مع الدول العربية الأخرى، ما يعني - منطقياً - ضرورة حلّ الصراع قبل البدء بالتطبيع، لكنها تلحّ على أن يبدأ التطبيع "على الفور"، للضغط لحلّ ذلك الصراع (بالأحرى تصفيته).
تقول الوثيقة: "مَنَع الصراع بين دولة إسرائيل والفلسطينيين البلدان العربية الأخرى من تطبيع علاقاتها والسعي المشترك لمنطقة مستقرة وآمنة ومزدهرة.... نعتقد أنه إذا قام عدد أكبر من الدول الإسلامية والعربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، فسوف يساعد ذلك على دفع حلّ عادل ومنصف للصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ويمنع المتطرفين من استخدام هذا الصراع لزعزعة استقرار المنطقة".
وتضيف: "كما تأمل الولايات المتحدة أن تبدأ الدول العربية داخل المنطقة، والتي لم تحقق بعد السلام مع دولة إسرائيل، على الفور، بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتفاوض معها في نهاية المطاف على اتفاقيات سلام".
2- تسويق رواية "التطبيع للمنفعة الإقليمية"
لا نستغرب إذا بدأ الإعلام في المرحلة القادمة بالتحدّث عن منافع التطبيع للعرب و"إسرائيل"، إذ تذكر الوثيقة أن "إسرائيل وجيرانها العرب الآن لديهم تصورات متشابهة بشكل متزايد حول التهديدات التي تهدّد أمنهم" (من قبل إيران)... لذا، فإن التطبيع وتسيير "رحلات جوية مباشرة بين دولة إسرائيل وجيرانها، ونقل الأشخاص والتجارة، وفتح الفرص لملايين الأشخاص لزيارة المواقع الدينية المقدسة"، يخدم هذه الدول.
3- تغيير الروايات في العقل الجمعي العربي
يوماً بعد يوم، سوف نرى مزيداً من محاولات تغيير سردية توصيف الصراع، فمن صراع على حقوق وأرض مغتصبة، سوف يتم صياغة روايات جديدة مختلفة السياقات تماماً. من هنا، تأتي أهمية وضرورة تمويل مسلسلات مثل مسلسل "أم هارون" وتسويقها، والذي لن يكون الأخير بالتأكيد.
وفي هذا الإطار، تقول الوثيقة: "إن قراءة الروايات السابقة حول الصراع غير مثمرة"، ويجب "أن تتوقف كل الروايات التي تشكك في جذور الشعب اليهودي الأصيلة في دولة إسرائيل".
أما بالنسبة إلى الصراع، فليس بعد الآن صراع بين محتل ومن احتلت أرضه، بل يجب تبنّي الرواية التي تتحدث عن أن الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط اليوم - بحسب الوثيقة - هو "بين القادة الذين يرغبون في خلق فرص اقتصادية وحياة أفضل لشعوبهم، وأولئك الذين يتلاعبون بالدين والإيديولوجية من أجل إثارة الصراع وخلق أعذار لإخفاقاتهم".
- تسويق فكرة "المساواة في الظلم والحقوق" بين الفلسطينيين واليهود
تتحدث الوثيقة عن أن "الصراع العربي الإسرائيلي تسبب في مشكلة اللاجئين الفلسطينيين واليهود على حد سواء"، وتقول إن "عدد اللاجئين اليهود الذين طردوا من الأراضي العربية بعد فترة وجيزة من قيام دولة إسرائيل، مماثل لعدد الفلسطينيين المهجرين". لذا، "يجب أيضاً معالجة قضية اللاجئين اليهود، بما في ذلك التعويض عن الأصول المفقودة". وعليه، "إن إسرائيل تستحق التعويض عن تكاليف استيعاب اللاجئين اليهود من تلك البلدان".
- الترويج لثقافة الاستسلام تحت عنوان "السلام"
من المطلوب من آلة الدعاية الإعلامية أن تركّز على ما تسميه الوثيقة "ثقافة السلام"، والتي تعني "وضع حد للتحريض، بما في ذلك في وسائل الإعلام، وكذلك وضع حدّ لتمجيد العنف والإرهاب والشهادة". والمطلوب من العرب والفلسطينيين "حظر الدعاية المعادية، وتغيير الكتب المدرسية والمناهج والمواد ذات الصلة، بما يحقق هدف اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني".
- شيطنة أشكال المقاطعة
تؤكد الوثيقة ضرورة إنهاء "أي مقاطعة لدولة إسرائيل"، وتنظر الولايات المتحدة إلى "حركة المقاطعة على أنها مدمرة للسلام".
في المحصّلة، يمكن القول إن الشق الإعلامي والثقافي يسير بموازاة الشق الأمني والسياسي، وقد يكون الأخطر، لاعتماده على القوة الناعمة لتسويق "صفقة القرن"، ولجعل قضية فلسطين مجرد قضية اقتصادية مبنية على قضية يستغلها حكام متعصّبون طائفياً، للتغطية على فشلهم في إدارة بلدانهم، وللقضاء على أي فرص للسلام يمكن أن تعيشها الشعوب جنباً إلى جنب في الشرق الأوسط... فإذا سارت هذه الرواية، انتهت قضية الحقّ وصارت مجرد جزء من صراع نفوذ بين محورين.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً