لماذا يحتاج بايدن إلى الخروج من استراتيجيَّة الاستنزاف؟
إنَّ المراقِب لمسار التفاعلات والتطوّرات في الشرق الأوسط، والحركة الروسية في الخليج، والزيارات التي يقوم بها كل من وفد حزب الله ووزير الخارجية الإسرائيلي إلى روسيا، يجد أنّها تشي كلّها بوجود محاولة لتحريك المياه الراكدة في الشرق الأوسط، بعدما وصلت الأمور إلى درجة الاستعصاء وعدم قدرة أيّ طرف دوليّ أو إقليميّ على التقدم في استراتيجيَّته لفرض قوته وتكريس نفوذه المطلق.
يعيش الشرق الأوسط منذ بداية ما سُمي بـ"الربيع العربي" مرحلة غير مسبوقة، أُعيد فيها رسم خطوط التحالفات والصراعات بطريقة مختلفة عما عاشه بعد مرحلة الانهيار السوفياتي. ومنذ عهد أوباما الثاني في البيت الأبيض، وخصوصاً بعد فشل مشروعه الأساسي، دخلت المنطقة مرحلة "الاستنزاف"، وما تزال لغاية تاريخه. وعلى الرغم من انخراط دونالد ترامب في مسار تحالفيّ مختلف عن سياسة أوباما، فإنّ "استراتيجية الاستنزاف" الأميركية بقيت على حالها.
ولكي نفهم السياقات الأميركية لتطبيق "استراتيجية الاستنزاف" التي طبَّقها أوباما واستكملها ترامب، وإمكانية استفادة بايدن من الاستمرار في تطبيقها، لا بدَّ من العودة إلى أهداف الاستراتيجية الأميركية في المنطقة بشكل عام منذ جورج بوش وحتى اليوم:
استراتيجيّة بوش: الانخراط الشامل لمكافحة الإرهاب
بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، قامت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش بتنفيذ خطة "طموحة" لتغيير شامل في الشرق الأوسط، يبدأ من العراق، ويمتدّ كالدومينو إلى كل أنحاء العالم العربي، لكن فشل الخطّة وتسبّبها بكلفة مالية ضخمة قدّرت بتريليونات الدولارات، وغرق الجيش الأميركي في المستنقع العراقي، واستنزاف العراق في حرب أهلية طائفية.. فرضت كلها تغييراً شاملاً في الاستراتيجية الأميركية، وأدّت إلى توقيع الاتفاقيات الأمنية واتفاقية الإطار الاستراتيجي في العام 2008.
في هذه الفترة، وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وفي ظلِّ انخراط الولايات المتحدة واستنزافها في الشرق الأوسط، وعى الأميركيون أن الصين استطاعت أن تحقق قفزات هائلة على الصعيد الاقتصادي العالمي والجيوبوليتكي في منطقة شرق آسيا، وبدأت مراكز التفكير الأميركية ومنشورات الجيش الأميركي تتحدَّث عن أنَّ تقدّم الصين على الولايات المتحدة وتشكيلها تحدياً حقيقياً على صعيد القيادة العالمية هما مسألة وقت فقط.
استراتيجيّة أوباما: ترتيب الشرق الأوسط لـ"التوجّه نحو آسيا"
مع مجيء أوباما إلى البيت الأبيض في العام 2008، كان أمامه مهمات ثلاث أساسية: احتواء الصين، وإخراج أميركا من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت داخلياً بانهيار البنوك الأميركية، وتصفية التركة الثقيلة التي تركها له بوش في الشرق الأوسط.
هكذا، أعلن استراتيجية "التوجّه نحو آسيا"، التي تعني القيام بترتيبات تسمح بحفظ المصالح الأميركية في الشرق الأوسط من دون انخراط مباشر (القيادة من الخلف)، وتوجيه القدرات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية لاحتواء الصين، فانخرط الأميركيون في مشروع هيلاري كلينتون لتحقيق المصالح الأميركية وترتيب الشرق الأوسط، عبر التحالف مع الإسلام السياسي "الإخواني" (بقيادة تركية) لحكم العالم العربي، كبديل من "حلف الاعتدال" الذي تتزعّمه السعودية، تحت عنوان ثورات "الربيع العربي".
تحوّلت الثورات إلى فوضى عارمة داخل الدول المعنيّة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها. ومع انتهاء عهد أوباما الأول، بدا أن مشروع هيلاري كلينتون فشل كلياً. وقد أدّى فشله إلى انخراط أميركي أكبر في المنطقة، بدلاً أن يخففه لمصلحة "التوجه نحو آسيا"، وتَدخَّل الروس والصينيون، وانتشرت الجماعات الإرهابية، وعاد الجيش الأميركي إلى العراق في العام 2014، بعد أن انسحب منه في العام 2011.
هكذا، تحوّل الأميركيون في عهد أوباما الثاني إلى "استراتيجية الاستنزاف"، أي قيام الأميركيين بالاستفادة من "حرب الكل ضد الكل"، للاستفادة من تحقيق توازن عسكريّ يؤدي إلى استنزاف الروس والإيرانيين وحزب الله في قتال حتى الموت مع المجموعات المسلّحة والإرهابيين في سوريا والعراق ولبنان... لكنَّ ذلك لم يحصل.
ترامب: تفكيك التّحالفات المتشكّلة حديثاً
مع مجيء ترامب، أبدى رغبته في الانسحاب من المنطقة، وفضّل التفاهم مع الروس على ترتيبات تسمح له بالخروج من المنطقة للتفرغ لاحتواء الصين (بحسب أولويات الاستراتيجية الأميركية). كانت خطَّته تقضي بتفكيك التحالفات التي تشكّلت خلال عهد سلفه باراك أوباما، وخصوصاً التحالف الصيني - الروسي والتحالف الروسي - الإيراني، وذلك عبر إعطاء مكاسب لروسيا في سوريا وأوكرانيا مقابل خروجها من التحالفات المتشكّلة، ما يسهّل مواجهة كلّ من الصين وإيران (وهي الخطة نفسها التي أدّت إلى تفكيك "البريكس").
واجهت ترامب عراقيل عدّة داخلية وخارجية منعت تطبيق الخطة الأولية، فكان الاستمرار في استنزاف الإيرانيين وحلفائهم عبر الوسائل الاقتصادية، وليس العسكرية، كما فعل أوباما. استفاد الروس من علاقات ترامب الشخصية مع بوتين عبر توسيع مساحة نفوذهم في الساحة السورية، وإعادة حوالى 75% من الجغرافيا السورية إلى كنف الدولة.
جو بايدن: أولويّة التفرّغ للدّاخل الأميركيّ
لا شكّ في أنَّ أمام بايدن مهمّات صعبة جداً خارجياً وداخلياً، فقد ترك له ترامب عالماً مختلفاً. لقد أدّت قيادة الأخير للولايات المتّحدة إلى مشاكل مع الحلفاء، وخروج من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، ومجتمع أميركيّ منقسم على ذاته، ارتفعت فيه نسبة العنصرية وجرائم الكراهية، وساد فيه الانقسام السياسي حتى طال العِلم والجيش الأميركي وكورونا واللقاح. وكما يبدو، لن يستطيع الديمقراطيون التخلّص من سطوة ترامب الداخليّة بسهولة.
وعليه، وعلى الرغم من أن أولويات الاستراتيجية الأميركية ما زالت احتواء الصّين وروسيا، لكن ماذا يفيد الأميركيين الانصراف إلى الردع والمواجهة الخارجية في وقت يتداعى الهيكل الداخلي؟
هكذا، يبدو أنَّ التهدئة وإدارة النزاع وتخفيف الانخراط اليوميّ الأميركيّ في شرق أوسط ملتهب، عبر ترتيبات سياسية تحفظ المصالح والنفوذ الأميركيين في المنطقة، كما تحفظ أمن "إسرائيل"، هي المسار الأفضل الذي يمكن أن يحقّق لجو بايدن وإدارته أمرين؛ الأول التفرغ للأولويات الداخلية لتحقيق إنجازات تمهّد للانتخابات النصفية في العام 2022 والانتخابات الرئاسية 2024، والآخر احتواء الصين التي بدأ اقتصادها يتعافى من جائحة كورونا، بينما لم يخرج الأميركيون من الجائحة بعد.
يبدو هذا المسار منطقياً من الناحية العقلانيّة وحسابات "الربح والخسارة"، ولا شكَّ في أنه سيفيد منطقة الشرق الأوسط وشعوبها، لكن تبقى العوائق أمامه مرتبطة بموقف إدارة بايدن وحلفائه الأوروبيين من روسيا، وعدم رغبتهم في إعطائها دوراً أكبر من مساحة نفوذها في سوريا في منطقة الشرق الأوسط، والضّغوط الداخليّة والحملات الإعلاميّة من الجمهوريين، والَّتي قد تفرمل اندفاعته وخطّته الأولى في تخفيف التّشنّج والاقتتال في المنطقة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً