كيف فشلت "محاولة الانقلاب" الأخيرة في لبنان؟
ما إن عمدت الحكومة اللبنانية إلى فتح الأسواق بعد إقفال دام أكثر من شهرين بسبب كورونا، حتى أعلنت بعض المجموعات اللبنانية نيّتها القيام بالتظاهرات وإقفال الطرقات، داعية إلى استقالة رئيس الجمهورية العماد ميشيل عون وإسقاط السلطة السياسية. هكذا، عاش اللبنانيون أياماً عصيبة وإذلالاً غير مسبوق على الطرقات، في مشهد يذكّر بممارسات الحرب الأهلية، وأهمها الإذلال الذي كان اللبنانيون يعيشونه على المعابر بين المناطق.
وبالنظر إلى القوى التي شاركت في قطع الطرقات، وخريطة الزيارات التي قام بها السفير السعودي وليد البخاري قبل الاحتجاجات، ولقائه المطوّل مع قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع، بدا واضحاً أنَّ السعودية كانت تجرّب، في محاولة أخيرة، القيام بتحسين أوراقها في الساحة اللبنانية، كساحة أخيرة من الساحات التي تمتلك فيها نفوذاً في المنطقة، والتي خسرت فيها جميعها، وأهمها اليمن، فحاولت دفع بعض الأطراف اللبنانيين إلى القيام بـ"محاولة انقلاب" وإسقاط رئيس الجمهورية.
هكذا، وبعد أيام من التظاهر وإحراق الدواليب والتلاعب بسعر صرف الدولار، قام الجيش اللبناني بفتح جميع الطرقات، وتبيَّن أنَّ محاولة الانقلاب فشلت للأسباب التالية:
أولاً - عدم مشاركة معظم مجموعات 17 تشرين "الثورية"
بدت معظم المجموعات "الثورية" التي ساهمت في انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 غير معنية بالحراك الدائر، ولم تنجرّ إلى الشارع لأسباب متعددة، منها معرفتها بالأهداف الحقيقية للمجموعات الحزبية التي تعمد إلى إقفال الطرقات وإذلال المواطنين، وغياب الرغبة والمصلحة لممولي بعض المجموعات، وغير ذلك.
ثانياً - انفراط عقد "جبهة المعارضة" الحزبية ضد الرئيس عون
لقد بدا واضحاً من خريطة التظاهرات وقطع الطرقات أنّ المجموعات الحزبية المشاركة، وخصوصاً في اليومين الأخيرين بعد لقاء بعبدا الاقتصادي، اقتصرت على مجموعات "القوات اللبنانية" وتيار "المستقبل" ومجموعات متفرقة من المتظاهرين – الأفراد - الذين انساقوا بدافع الفقر والعوز وانعدام الفرص أو مقابل بدل مادي.
في أولى أيام التظاهر، شارك بعض الشباب الغاضبين في قطع الطرقات في الضاحية الجنوبية وطريق المطار وغيرهما، وقيل كلام كثير ضد رئيس الجمهورية في التظاهرات، إلا أنَّ بياناً مشتركاً من "حزب الله" وحركة "أمل" قطع الطريق على محاولات جرّ بعض الشباب المتحمس للانخراط في تلك التظاهرات، وخصوصاً حركة "أمل"، التي تنصّلت من الأمر. بعدها، هدأت المسيرات الليليَّة وإقفال الطرقات في الضاحية والخندق الغميق وسائر المناطق المحسوبة على الثنائي الشيعي.
أما الوزير السابق وليد جنبلاط، فبدا غير معنيّ بالانجرار إلى جبهة ميدانية تستخدم الشارع لإسقاط رئيس الجمهورية، في بلد يعرف تماماً أن إسقاط رئيس الجمهورية "المسيحي" يعدّ من سابع المستحيلات، فكيف برئيس مدعوم من حزب الله! وكان السيد حسن نصر الله قد حدد موقف الحزب من إسقاط العهد منذ بداية التظاهرات في تشرين الأول/أكتوبر 2019، حين أعلن صراحة: "العهد ما فيكم تسقطوه!".
يُضاف إلى ما سبق أنّ جنبلاط قارئ جيّد للتطورات الإقليمية والدولية، وهو يدرك تماماً أنَّ مجيء جو بايدن إلى البيت الأبيض ودعوته للانفتاح على إيران وموقفه من ولي العهد السعودي، لا يسمح بمغامرات قتال شوارع شبيهة بمغامرة 7 أيار الشهيرة.
وقد ظهر جلياً في الحديث المسرّب لوليد جنبلاط، والذي اعتذر عنه في ما بعد، أنَّه يدرك أن الرهان السعودي على جعجع لن يأتي بنتيجة فعلية على الأرض، ولن يغيّر المعادلات الإقليمية، ولن يعطي السعودية دفعاً فقدته في جميع الساحات الإقليمية الأخرى.
هكذا، بقيت "القوات اللبنانية" وتيار "المستقبل" الطرفين السياسيين وأبرز المشاركين في قطع الطرقات؛ الأوّل بتشجيع من المملكة السعوديّة، والآخر لتعويم موقفه التفاوضي في الحكومة، ولتحسين صورة سعد الحريري لدى المملكة، التي ما زالت تعتبر أنه أخطأ بعقد التسوية مع الرئيس عون، وما زالت غاضبة مما حصل بعد استدعائه إلى السّعودية وإجباره على الاستقالة في العام 2017.
ثالثاً - تراجع البطريرك المارونيّ بشارة الراعي
حاولت "القوات اللبنانية" وباقي الأطراف المعارضة أن تأخذ من المواقف التي أطلقها البطريرك الماروني ودعوته إلى مؤتمر دولي غطاءً للتحركات التي قامت بها في الشارع، وهو ما عكسته تصريحات المتظاهرين المؤيدين لـ"القوات" على الشاشات، وهي عادةً ما تكون تصريحات متفقاً عليها "تحت الهواء"، وليست عفوية، كما يعتقد البعض.
الجواب السريع على دعوة البطريرك "التدويلية" أتى من نائب المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، نجاة رشدي، التي أشارت إلى أنَّ عقد المؤتمر الأممي يرتبط بإرادة الدول المشاركة وموافقة الأطراف في الداخل عليه، وأكَّدت للبطريرك ضرورة قيام حوار داخلي لبناني يسبق الخطوة.
هذا الجواب أحبط مبادرة البطريرك في مهدها، ثم إنَّ الزيارة التي قام بها وفد من "حزب الله" إلى البطريركية، وزيارة اللواء عباس إبراهيم، ومشاهد الذل على الطرقات، وخصوصاً في المناطق المسيحية، كانت حافزاً لتوجيه البطريرك دعوة صريحة إلى عدم قطع الطرقات أمام المواطنين، وذلك بعد يومين من قطعها والتسبّب بمقتل 4 أشخاص.
هذا في خريطة اللبنانية الداخليّة. أما في الخارج، فيبدو من خريطة المجموعات المشاركة أنَّ الدول التي دعمت ثورة 17 تشرين الأول وساهمت في دعمها، ومنها الولايات المتحدة، لم تكن مشاركة في الحركة الانقلابية التي حاولت السعودية أن تقوم بها، كمحاولة أخيرة لتعويم نفسها في ساحة من ساحات الإقليم، لكنها - كما يبدو - أعطتها فترة سماح محدودة زمنياً، لترى مدى قدرتها على تحقيق أهداف سياسية من خلالها. وبفشل الخطة الميدانية، وهو ما كان متوقعاً، فُتحت الطرقات، وتراجعت الحركة "الثورية" في الشارع، وعاد كل طرف إلى حجمه، وفشل الانقلاب!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً