تبدّل أولويات الأمن القومي بعد كورونا
يقف العالم اليوم مذهولاً أمام هول الكارثة التي حلّت بالدول كافة، في ظل تفشي جائحة كورونا، وتساوي قدرة دول كبرى على المواجهة والاحتواء مع دول صغيرة وأخرى هشة ومفلسة، كلبنان على سبيل المثال لا الحصر، الذي فاق بقدرته على احتواء الوباء قدرة بعض الدول الأوروبية.
والأكيد أن الوباء اليوم كشف هشاشة العديد من الدول وقدرتها على التعامل مع التهديدات، وبالتالي من المنطقي أن تقوم تلك الدول - في مرحلة ما بعد كورونا - بإعادة تقييم شاملة لمستوى جهوزيتها الوطنية، ومستوى قدرتها على الاستجابة للمخاطر المستجدة.
وهذا التقييم سيفرض إعادة ترتيب الأولويات في موضوع التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي، ويمكن أن يفضي الى إعادة تعريف للأمن القومي ككل.
تنطلق الدول عادة من فكرة أن التهديدات التي يجب مواجهتها هي بشكل أساسي تهديدات عسكرية- أمنية، ما یجعل التهدید الخارجي والخوف من السیطرة الأجنبیة من الأولویات الرئیسیة لأمن الدول.
وهكذا يكون التعريف التقليدي للأمن القومي، والذي يبدو أنه يضيق يوماً بعد يوم في ظل زيادة التحديات العالمية، هو "ما تقوم به الدول للحفاظ على سلامتها من الأخطار الداخلیة والخارجیة التي قد توقعها تحت سیطرة أجنبیة أو تجعلها عرضة للتضحية بالقيم الأساسية، نتیجة ضغوط خارجیة أو انهیار داخلي".
وانطلاقاً من هذه المقاربة التقليدية، برزت مدرستان، الأولى تركّز على الجانب العسكري والتهديد الخارجي للدولة، والثانية تضيف إلى ما سبق أمن الموارد الحيوية والاستراتيجية، والتنمية التي لا محل للحديث عن الأمن من دونها.
ومع تطور الظروف الدولية وتبدل مصدر التهديدات وتطورها، تبدلت النظرة الى الموضوع الأمني، وبات يُنظر الى الأمن القومي باعتباره أبعد من الدولة كوحدة، وأضاف الباحث - المرجع في الدراسات الأمنية - باري بوزان المخاطر الفردية والمجتمعية، والتهديدات العابرة للحدود، والأزمات الزاحفة، والكوارث الطبيعية... باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من النظرة المعاصرة إلى الأمن القومي.
أما روبرت كابلان، فأضاف إلى هذه التهديدات أبعاداً أخرى تتعلق بالاكتظاظ السكاني، والأمراض المعدية، والتحزبات القبلية والعشائرية... واعتبر أنها تشكّل تهديداً للأمن العالمي، ويمكنها أن تدمر النسيج الاجتماعي لكوكب الأرض.
وعلى الرغم من كل هذه التطورات والأفكار، بقيت الدول - وخصوصاً الكبرى منها - تركّز على البعدين العسكري والاقتصادي، باعتبارهما يشكّلان قوة الدول الأساسية، وبقيت العوامل الأخرى في إطار ثانوي، إلى أن أتت أزمة كورونا، فكشفت هشاشة التفكير الأمني التقليدي للدول وقصر نظرها.
وهكذا، يمكن أن نشير إلى بعض المقاربات العالمية التي ساهمت في تفاقم أزمة كورونا وتأثيراتها في بعض الدول، نذكر منها:
- في الولايات المتحدة:
في مقارنة بين استراتيجية الأمن القومي التي وضعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتلك التي وضعها قبله الرئيس باراك أوباما، نجد أن التهديدات جراء التغيرات المناخية والبيئة والصحة وحقوق الإنسان التي أوردها الأخير في استراتيجيته، غابت كلياً عن استراتيجية ترامب، وحلّ مكانها التنافس الاستراتيجي مع روسيا والصين، والتهديدات من كوريا الشمالية وإيران كأولوية.
- في الإطار الأوروبي:
استمر الأوروبيون - بشكل عام - بالتركيز على التهديد الاستراتيجي الروسي، وتنبّهوا إلى تحديات الهجرة غير الشرعية ومشاكل النمو الاقتصادي، وأغفلوا كلياً التهديد الصحي، بدليل أن معظم الدول الأوروبية قامت بخصخصة قطاعات الصحة والمواصلات وغيرها، معرّضة أمنها القومي لأخطار لم تكن في الحسبان.
- سياسات منظمة الصحة العالمية و"نصائحها":
سوّقت منظمة الصحة العالمية "معاييرها العالمية" لفعالية الأنظمة الصحية في العالم، وحصرت الموضوع بحجم "الكلفة المادية"، التي تقوم على فكرة أنه كلما كان إنفاق الدولة أقل، كان نظامها الصحي أكثر فعالية، والعكس صحيح، في إغفال واضح لمبدأ جودة الصحة وقدرة المواطنين على الوصول إلى الخدمات الصحية في قياس تلك الفعالية، وهو ما تبيّن عدم صحته اليوم.
إضافةً إلى ما سبق، شجعت منظمة الصحة العالمية الدول على الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص في المجال الصحي والمستشفيات، وهو ما أثبت عدم فعاليته في هذه الأزمة، إذ اضطرت دولة مثل فرنسا - على سبيل المثال - إلى تأميم المستشفيات لمواجهة كارثة كورونا.
في المحصلة، لا بد للدول اليوم، وبعد أن تنجلي أزمة كورونا، من أن تعيد تقييم سياساتها الصحية، ووضع الأمن الصحي في سلم الأولويات، وبشكل موازٍ للأمن العسكري.
والأهم، بات على العالم الحذر مما يسوّق له كوصفات عالمية، يبدو أنها تخدم أدوات العولمة النيوليبرالية، كالشركات الكبرى، وهي في إطار الصحة: شركات الأدوية الكبرى وشركات التأمين.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً