لماذا يفشل الأميركيّون في السّياسة الخارجيّة؟
وقف العالم مذهولاً أمام صور الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والتي أعطت انطباعاً بأن هزيمة عسكرية قد حصلت، وأن الجيش الأميركي وأعوانه ينسحبون على وقع ضربات سددتها "طالبان" للقوات الأميركية، وهو أمر لم يحصل واقعاً، بل إن الانسحاب الأميركي كان محدداً في التوقيت والزمان، بفضل سنوات من التفاوض مع "طالبان" وأشهر من التحضير لانسحاب حدده بايدن في أواخر آب/أغسطس الجاري.
وتشير العديد من المقالات والتحقيقات إلى أنَّ حرب الولايات المتحدة الأميركية الأطول في ذلك البلد، كانت تخدم شركات الأمن الخاصة وشركات السلاح والتنقيب عن المعادن، لكنّ الأمر الأكثر غرابة هو ما تم كشفه من أن عتاداً عسكرياً بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، تمّ تركه في الميدان، وحصلت عليه "طالبان"، ما يجعلها تمتلك أسلحة استراتيجية قلّ نظيرها في المنطقة.
ولعلَّ الذهول الذي طبع العالم من الصور المذلّة للانسحاب الأميركي، مردّه إلى أنَّ العديد من المحللين والناس العاديين حول العالم، يعتقدون أنَّ الولايات المتحدة "لا تخطئ ولا تنهزم"، وأن كل ما يقوم به الأميركيون، حتى الفوضى وصور الهزيمة، "محضّر له بعناية ومدبّر"، وأنَّ الأميركيين "مثاليون" في التنظيم والتخطيط الاستراتيجي والتنفيذ، ولكن الاعتقاد هذا، والذي قد يكون مرده إلى دعاية سياسية أميركية وقوة ناعمة أميركية ناجحة، تدحضه العديد من الوقائع التاريخية. نذكر بعض الأمثلة الحديثة، ومنها:
- الحرب على العراق 2003 - 2008
بعد القضاء على حكم صدام حسين، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش أنَّ العراق سيكون نموذجاً للديمقراطية في المنطقة، وأنَّ نظرية الدومينو سوف تطبق، فتتدحرج جميع الدول المحيطة به، وتنتقل من الحكم الديكتاتوري إلى الحكم الديمقراطي.
قام الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بتعيين السفير بول بريمر رئيساً للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق في 6 أيار/مايو 2003. بعد تعيينه مباشرة، رفع بريمر مذكرةً إلى وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، خلُص فيها مبدئياً إلى أنه ينبغي حلّ الجيش العراقي وأجهزة الأمن والمخابرات العراقية، فوافق، وأدّى تطبيق هذه السياسة إلى اهتزاز الأمن والاستقرار في العراق. وساهم الأميركيون في دعم الحكام الفاسدين، ما حوّل العراق إلى دولة فاشلة ما زالت تتعثر لغاية اليوم.
وتشير شهادات الدبلوماسيين الذين عملوا في العراق في تلك الفترة إلى أن برامج كل من بريمر التابع لوزارة الخارجية، ورامسفيلد في وزارة الدفاع، تضاربت في العراق وتضاربت معها مصالحهم ومصالح اللوبيات التي يخدمونها، حتى وصل الحال إلى ما هو عليه من فوضى جعلت الأميركيين يدفعون تريليونات الدولارات وآلاف القتلى من دون تحقيق الأهداف المرسومة من قبل الإدارة، واتخاذ قرار الانسحاب في العام 2008.
- دعم الإخوان في مصر 2011 - 2013
حصلت ثورة 25 يناير في مصر لإطاحة حكم حسني مبارك. وعلى الرغم من أن حركة الإخوان المسلمين المصرية كانت آخر من انضمَّ إلى التظاهرات، فإنَّها استطاعت أن تتصدّر الحركة الشعبية وتفوز في الانتخابات، لأنها كانت الأكثر قوة والأكثر تنظيماً، وبفضل الدعم الأميركي للحركة (خطة هيلاري كلينتون).
وعلى الرغم من أنَّ الشارع المصري عاد بعد سنتين، وانتفض على الحكم الإخواني بسبب سلسلة من الأخطاء، وتبدل موازين القوى الداخلية والإقليمية، فإنَّ السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون (لقبها المصريون بالحيزبون، وطالبوا برحيلها) استمرت في دعم مرسي حتى اللحظة الأخيرة قبل سقوطه.
استمرَّ تعامي الأميركيين عن أخطاء سياساتهم في مصر حتى اللحظة الأخيرة، واستمروا في الدعاية السياسية للإخوان، وذلك عبر العديد من الصحافيين والسياسيين الذين يدورون في فلكهم. وكنوع من التسويق السياسي، قام مركز "بيو" للأبحاث بنشر نتيجة استطلاع للرأي قام به في مصر في 17 أيار/مايو 2013 (قبل أسابيع من الثورة المليونية الثانية)، ادّعى فيه أنَّ نسبة تأييد مرسي بين المصريين تبلغ 53%، وأن غالبية 67% من المصريين تؤيد الإخوان!
نورد هذين المثالين للإشارة إلى أنَّ الأميركيين عادةً ما يفتقرون إلى المعرفة بالظروف الاجتماعية الدقيقة السائدة في بلد معيَّن، فيضعون الخطط بناءً على رأي استشاريين وعملاء من البلد نفسه، والذين عادةً يقولون ما "يعتقدون أنَّ الأميركي يودّ سماعه"، ويخلطون بين الدعاية السياسية والحرب النفسية التي يقوم بها الأميركيون، وواقع الحال الحقيقي الذي يجب أن يتّسم بمنتهى الموضوعية، لأنه الأساس لوضع الخطط وصنع السياسات.
في لبنان على سبيل المثال، تستمرّ بعض الشخصيات اللبنانية في واشنطن، من باحثين وإعلاميين، في شهاداتهم في الكونغرس، بترداد لازمة "أن حزب الله بات ضعيفاً، وأنه يفقد حاضنته الشعبية"، نتيجة الضغوط القصوى التي تمارسها الإدارة الأميركية على لبنان، بينما تشير الوقائع على الأرض إلى أنَّ الحزب كان الفئة الأقل تضرراً من تلك الضغوط، لا بل بالعكس، هو استفاد من الحرب الاقتصادية والتجويعية على لبنان بتحويل التهديد إلى فرصة، وذلك لإقامة نظامه المصرفي الخاص، ودعم مؤسساته الاجتماعية الخاصة، واستيراد البنزين والمازوت من إيران.
وعليه، يمكن أن نقول إنَّ صنع السياسات في واشنطن ليس مثالياً دائماً، والتنسيق بين الإدارات والوزارات الأميركية لا يكون متوافراً دوماً، بل يتضارب بتضارب مصالح اللوبيات المختلفة والأجهزة المتعدّدة، وهو ما يؤدي إلى فشل السياسات الخارجية الأميركية في العديد من المناطق، إذ تقوم واشنطن بعدها بترك عملائها لمصيرهم والرحيل، وهو ما حصل في أفغانستان، كما أنه مرشّح لأن يحصل في بلدان أخرى.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.