محكمة العدل الدولية: جنوب أفريقيا ستغيّر "النظام العالمي"
في أحد التعليقات اللافتة على بدء محاكمة "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية، في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها واتهامها بارتكاب إبادة في غزة، قالت فرانشيسكا ألبانيز، المقرِّرة الخاصة للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية المحتلة، "إن مشاهدة النساء والرجال الأفارقة، وهم يقاتلون من أجل إنقاذ الإنسانية والنظام القانوني الدولي ضد الهجمات الوحشية التي يدعمها ويمكّنها معظم الغرب، ستظل إحدى الصور المميزة لعصرنا. وهذا سوف يصنع التاريخ مهما حدث".
وبالفعل، سوف يذكر التاريخ يوم 11 كانون الثاني/ يناير من عام 2024 بأنه يوم تاريخي في مسار العدالة الدولية، بحيث تبدأ محكمة العدل الدولية الاستماع إلى القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" واتّهمتها بارتكاب أعمال إبادة في غزة.
وهكذا، لأول مرة، تكون "إسرائيل" عرضة للمساءلة عن جرائمها المرتكبة بحق الفلسطينيين والعرب، بعد أن قام الغرب باستخدام قوته ونفوذه لمنحها حصانة سياسية وحصانة قانونية لم تتمتع بهما دولة عبر التاريخ.
استخدمت جنوب أفريقيا اتفاقية "منع جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها"، لعام 1948، إطاراً قانونياً للادعاء على "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية، انطلاقاً من أنها و"إسرائيل" عضوتان في تلك الاتفاقية وموقعتان عليها.
وتؤكد المادة الأولى من تلك الاتفاقية أن الإبادة الجماعية هي "جريمة بمقتضى القانون الدولي" تتعهد الأطراف المتعاقدة "المعاقَبةَ عليها"، كما تنصّ المادة الرابعة من تلك الاتفاقية على معاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية أو عدة أفعال أخرى ذات صلة، "سواء كانوا حكاماً دستوريين، أو موظفين عامين، أو أفراداً".
وعدّت الاتفاقية أن جريمة "إبادة الجنس" هي أخطر وأضخم الجرائم ضد الإنسانية، ووصفتها - على نحو دقيق - بأنها "الجريمة النموذج" ضد الإنسانية، بل "جريمة الجرائم"، نظراً إلى التداعيات الناجمة عنها.
أمّا الأركان التي يجب توافرها في الجريمة لتصنَّف جريمةَ "إبادة جماعية" فهي:
1 - الركن المادي، ويفترض القيام بأحد الأعمال الإجرامية الواردة حصراً في التعريف - الوارد في المادة الثانية من الاتفاقية، أو في المادة السادسة من نظام روما الأساسي - وذلك بقصد "إهلاك جماعة بشرية معينة".
وكان نظام روما الأساسي، في مادته السادسة، اقتبس النص الحرفي لتعريف جريمة "الإبادة الجماعية"، الوارد في المادة الثانية في اتفاقية "إبادة الجنس"، فعرّفها بأنها جريمة تُرتكب "بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكا كلياً أو جزئياً".
وتأتي عبارة "إهلاك" هنا واضحة ومحدّدة، الأمر الذي دعا الباحث الشهير في القانون الجنائي الدولي، روبرت ميلسون، إلى تصنيف أعمال الإبادة بين إبادة جماعية تامة، وإبادة جزئية.
في الإبادة الجماعية ككل، هناك محاولة للقضاء على فئة كاملة من الضحايا. في المقابل، هناك إمكان ليكون ثمة قصد إهلاك جزئي، وتدمير الهوية للجماعة وتغييرها، أو ارتكاب أحد الأفعال المحظورة الواردة في تعداد الجرائم التي تدخل في إطارها.
وتبقى هذه، في نظر القانون الدولي، من أعمال الإبادة. وهذا يعني أن ادعاء "إسرائيل" أنها لا تقصد إهلاك الفلسطينيين، بصفتهم الجماعية، بدليل وجود مجموعات منهم تحت نطاق احتلالها الضفة الغربية، لا يمكن الاعتداد به.
2- الركن المعنوي، ويفترض النيّة: يُعَدّ شرط النية من أهم الشروط التي تميّز جريمة الإبادة الجماعية من سائر الجرائم الدولية، ويشترط أن يكون لدى الفاعل نية جرمية تتجه إلى تحقيق الإبادة، لأن هذه الجناية عمدية. ويُشترط فيها، إلى جانب القصد العام، وهو القتل المنهجي المتعمد والواسع النطاق، توافُرُ القصد الخاص، وهو تحقيق الإفناء.
أكد هذا الشرط الكثير من أحكام محكمتي رواندا ويوغوسلافيا السابقة، بحيث أكدت كل منهما أن الأعمال الإجرامية، والتي تشكل العامل المادي لجرائم الإبادة، لا بد من أن تحمل معها مشروعاً تدميرياً ونية في إهلاك مجموعة بشرية.
وعلى هذا الأساس، يتضمّن طلب جنوب أفريقيا، المؤلف من 84 صفحة، والمقدم إلى محكمة العدل الدولية، نحو عشر صفحات (تبدأ من الصفحة الـ59) تشتمل على تصريحات مسؤولين مدنيين وعسكريين إسرائيليين، توثّق "النية" الإسرائيلية في القيام بالإبادة الجماعية في غزة.
وتشمل هذه البيانات تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو، والرئيس هرتسوغ، ووزير الأمن غالانت، وخمسة وزراء آخرين، وكبار ضباط الجيش، وأعضاء الكنيست. وفي هذه التصريحات إدانة واضحة، وكشف لزيف الادعاء الغربي أن تصريحات الوزراء المتطرفين وإعلانهم نية القيام بإبادة في غزة، ومنهم بن غفير وسموتريش، لا تعكس حقيقة "نيّات" الحكومة الإسرائيلية.
في كل الأحوال، مهما يكن من نتيجة هذه المحاكمة، يبقَ أن هذا اليوم سيكون علامة فارقة في تاريخ العالم، الذي يشهد نهضة "الجنوب العالمي" في مواجهة القوة الظالمة والبطش والاستعمار متعدد الوجوه. إنها مرحلة مليئة بالتطورات، وسيكون العالم بعدها ليس كما قبلها.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة