7 أكتوبر: فشل إستراتيجية "جدار الحديد" الإسرائيلية
الاشراق | متابعة.
كان زئيف جابوتنسكي أحد منظّري الصهيونية في بداية القرن العشرين، الذي أعلن لاحقاً انشقاقه عن الصهيونية التقليدية، ليؤسس ما عُرف فيما بعد باسم "الصهيونية التصحيحية"، والتي اعتبر فيها أنه يجب تأسيس "إسرائيل" بين "النهرين"، إذ تمتد إلى الأردن وسوريا، رافضاً فكرة تقسيم فلسطين بين "دولتين".
ومن أهم أفكار جابوتنكسي هي فكرة "جدار الحديد" التي تعني أن "إسرائيل" يجب أن تكون محاطة بجدار من الحديد الصلب (بصورة مجازية)، أي أنها يجب أن تتمتع بالقوة العسكرية الفائقة، بحيث إن من يحاول مقاومتها يضرب رأسه بجدار من الحديد الصلب ويفشل.
هذه القوة تسهم في الحرب النفسية والإعلامية التي تزرع في قلوب العرب والفلسطينيين فكرة أن "إسرائيل لا تقهر"، وبالتالي على كل فلسطيني أن يذعن لما تريده "إسرائيل" لأنه أضعف وأعجز عن هزيمتها وعن تغيير الواقع.
ولخّصت "الصهيونية التصحيحية" مشروعها بشعار بثّ الخوف واليأس، أي أن يقوم المشروع على زرع اليأس في نفوس الفلسطينيين عبر ترهيبهم وتخويفهم والتعامل معهم "بالسيف" وبالشدة، وتكبيدهم خسائر كبرى وآلاماً لا تطاق كلما حاولوا اقتحام "جدار الحديد"، حتى يفقدوا كل أمل بإمكانية طرد الإسرائيليين من فلسطين، وبالتالي يختارون سبيل الاستسلام بدلاً من المقاومة، لأنه أقل كلفة.
ويعتقد جابوتنسكي أن الفلسطينيين، وتحت تأثير اليأس من إمكانية تحقيق أي شيء عبر المقاومة، وبسبب الكلفة الباهظة، سيختارون في النهاية قادة "معتدلين" (بالتوصيف الصهيوني).
وفيما بعد، طوّر الإسرائيليون هذه الأفكار، وأطلقوا عليها اسم "كي الوعي" الذي يعني عدم إقدام الفلسطينيين والعرب على قتال "إسرائيل" بسبب الإيمان بالعجز عن ذلك والخوف والهلع من رد الفعل الانتقامي الذي يمكن أن تقوم به "إسرائيل" ضد كل من يفكر في قتالها.
تطبيق نظرية "جدار الحديد" في غزة ولبنان
لا شكّ في أن أفكار نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة هي نسخة عن أفكار زئيف جابوتنسكي وتطبيق لها، بحيث قامت "إسرائيل" برد فعل انتقامي غير مسبوق في غزة، بحيث دمرت ما يقارب 60% من العمران في غزة، وقتلت ما يزيد على 15 ألف فلسطيني منذ بدء حربها الانتقامية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر.
وكانت الصحف الأميركية في بداية الحرب قد نقلت عن مسؤولين أميركيين زاروا "إسرائيل" بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر أن "الإسرائيليين جنّوا"، وهي عبارة تهدف إلى التغطية على رد الفعل الانتقامي الذي تمارسه "إسرائيل" في غزة.
هذه الحرب التدميرية التي تقوم بها "إسرائيل" في غزة عبر قصف جوّي غير مسبوق وإلقاء مئات الآلاف من الأطنان من القنابل تشبه إلى حد بعيد ما طبّقه الإسرائيليون في حرب تموز/يوليو 2006، وما سمّوه "عقيدة الضاحية"، فبعدما انتهى "بنك الأهداف" التي كان الإسرائيلي يريد ضربها، بات القصف عشوائياً بقصد التدمير، وليس لتحقيق أهداف عسكرية.
لهذه الحروب الانتقامية أهداف أبعد من أن تكون عسكرية فحسب. هي تهدف إلى زرع الفرقة والشقاق بين المقاومة وأهل المدن التي يتم قصفها عشوائياً، كما تهدف إلى إقناع الفلسطينيين واللبنانيين بأن المقاومة مكلفة وغير مجدية، وأن كلفة الاستسلام والاستقرار النسبي الذي كانوا يعيشونه أفضل من حالتهم الحالية بعدما تسبّبت أعمال المقاومة بتدمير بيوتهم وقتل أطفالهم.
من "جدار الحديد" إلى "بيت العنكبوت"
لكن ما لم يحسب الإسرائيلي حسابه هو أن سياسة "كي الوعي" أو "جدار الحديد" التي طبقها في الحروب العربية الإسرائيلية في القرن العشرين، لم تعد تجدي نفعاً مع فشل الحروب الإسرائيلية وبدء الانتصارات العربية منذ عام 2006، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي قامت برد سياسة "كي الوعي" و"ادعاء الجنون" على أصحابها.
وهكذا، حين أدركت "إسرائيل" أنها بدأت تخسر حربها النفسية، انقضّت على الصحافيين والصحافيات وعلى الأطفال والمدنيين العزّل تغتالهم. وحين لم يعد الإسرائيلي يستطيع ممارسة "كي الوعي" الفلسطيني، ولم يعد يستطيع إقناع الجمهور العربي والفلسطيني خاصة بأن لا جدوى من المقاومة، وأن المقاومة مكلفة، انتقل إلى السير في مسارين: ترهيب الأكاديميين والمفكرين والمؤثرين المعارضين لـ"إسرائيل" في وسائل التواصل الاجتماعي، والتواصل مع مؤثرين لرشوتهم لتسويق الدعاية الإسرائيلية.
هذا في ما خص فكرة "جدار الحديد". أما الأعمال الانتقامية الشديدة الضراوة، فقد انقلبت أيضاً إلى عكس ما يريده الإسرائيلي منها، إذ كانت مشاهد الأطفال والمجازر والقصف التدميري غير المسبوق لغزة حافزاً لخروج التظاهرات في كل أنحاء العالم لرفض ما تقوم به "إسرائيل" ورفض ذريعة الدفاع عن النفس التي حاول المسؤولون في الغرب تسويقها.
لقد خرقت حرب غزة وما رافقها من تفاعل في وسائل التواصل الاجتماعي الحديث مبدأ احتكار الإعلام واحتكار السردية الإسرائيلية، وسمحت بتسويق سردية فلسطينية موازية، وقوّضت نظرية "جدار الحديد" الإسرائيلي، وأظهرت "إسرائيل" بأنها فعلاً "أوهن من بيت العنكبوت"، كما وصفها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في وقت سابق.