الولايات المتحدة: المؤشرات الداخلية مقلقة!
في خضم الصراع الأميركي مع روسيا بعد تدخلها العسكري في أوكرانيا، الذي ينذر بكارثة اقتصادية عالمية، والذي يكاد يتسبب بحرب "إبادة نووية"، كما حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، أجرت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي زيارة استفزازية لتايوان على الرغم من كل التحذيرات الصينية.
ومع أن الصين لم تسقط طائرة بيلوسي، ولم تندفع إلى خيار عسكري متهور ضد تايوان، إلا أن القيادة الصينية تمتلك عدداً من الوسائل التي تجعلها قادرة على الردّ بهدوء وبطريقة متدرجة ومؤلمة لتايوان بفضل قدراتها العسكرية والمالية والاقتصادية فضلاً عن قدرتها على حصار الجزيرة الصغيرة قربها.
ولا يمكن فصل الأسباب الداخلية في الولايات المتحدة عن رغبة إدارة بايدن في إثارة التوترات العالمية، وتأجيج الصراع الاستراتيجي مع روسيا والصين، ومحاولة الظهور بمظهر القوة العالمية لتوظيفها في الداخل وفي الانتخابات النصفية المقبلة، فكيف تبدو الصورة من داخل الولايات المتحدة نفسها؟
1- رئيس ضعيف أداؤه سيئ
أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة كوينباك[1]، أن الرئيس الأميركي جو بايدن هو أقل الرؤساء الأميركيين شعبية في تاريخ الولايات المتحدة (في النصف الأول من ولايته)، فقد قال 31% فقط من المستطلَعين إنهم راضون عن أدائه.
واللافت، أن ما يقارب 7 من كل 10 أميركيين (71%) قالوا إنهم لا يرغبون في رؤية جو بايدن يترشّح للرئاسة عام 2024. من بين المستطلَعين من الحزب الديمقراطي، رأى 54% أنهم لا يرغبون في ترشّحه مجدداً، فيما 40% فقط قالوا إنهم يودّون ذلك.
في المقابل، كانت نسب تأييد ترامب أفضل من نسب جو بايدن على الصعيد العام، وفي داخل حزبه. على الصعيد العام، قال أكثر من 6 من كل 10 أميركيين (64%) إنهم لا يرغبون في رؤية دونالد ترامب يترشح للرئاسة عام 2024. ومن بين الجمهوريين، قال 69% إنهم يرغبون في ترشح ترامب عام 2024، فيما قال 27% إنهم لا يرغبون.
2- الانتخابات النصفية: خسارة مرجحة للحزب الديمقراطي
يعاني الاقتصاد الأميركي تباطؤاً وتضخماً شديدين، وذلك بسبب الحزمات المالية التي أنفقت على خطة التعامل مع فيروس كورونا المستجد عام 2021، ثم الحرب الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا التي جعلت أسعار الطاقة ترتفع إلى مستويات عالية، ومعها يرتفع التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً.
وعموماً، يغلب الموضوع الاقتصادي والتضخّم والقضايا الداخلية على توجهات الناخبين في الولايات المتحدة أكثر مما تعني لهم السياسة الخارجية، ولطالما كان التعثّر الاقتصادي أو حتى نظرة الأميركيين إلى مستقبل البلاد الاقتصادي هي العامل الحاسم في الانتخابات حتى الرئاسية منها. لذا، من المرجّح أن يسيطر الحزب الجمهوري على الغالبية في الكونغرس الأميركي في الانتخابات النصفية المقبلة.
وذكر استطلاع للرأي أجراه غالوب[2] أخيراً في الأول من آب/ أغسطس، أن التضخم وأزمة القيادة الحكومية والاقتصاد عموماً هي هموم المواطن الأميركي الأساسية، وفي سؤال مفتوح، 1% فقط أجاب بأن روسيا تشكّل قلقاً له، ولم يبدِ أي شخص قلقاً من الصين.
3- انقسام عمودي في الرؤى السياسية والقيمية
لطالما عانت الولايات المتحدة الأميركية الاستقطاب، وكان الاستقطاب عمودياً في فترة العبودية وقوانين الفصل العنصري والعرقي (قوانين جيم كرو) التي اعتمدت في الولايات الجنوبية وامتدت إلى عدد من الولايات الشمالية في القرن التاسع عشر.
لكن، مع منتصف القرن العشرين، وعلى الرغم من بقاء السياسات العنصرية ضد السود، تراجعت حدّة الخلافات الأيديولوجية بين الديمقراطيين والجمهوريين، فكان المحافظون والمعتدلون والليبراليون في الحزبين، ويمكنك أن تحصل على مواقف متشابهة حول القضية المطروحة نفسها في كلا الحزبين.
اليوم، أصبح الفرز حقيقياً وواضحاً بين الحزبين، فلقد سيطر الليبراليون -وبخاصة اليسار الليبرالي- على قواعد الحزب الديمقراطي، فيما سيطر المحافظون –وبخاصة اليمين المتطرف– على قواعد الحزب الجمهوري، وبين هذين الحدّين المتطرفين، تزدهر الشعبوية وتغيب الأصوات المعتدلة، وتتلاشى تدريجياً الطبقة السياسية التقليدية التي يمثلها بايدن وأمثاله.
في النتيجة، الولايات المتحدة منذ عام 2008، أي منذ الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت بالمصارف الأميركية وامتدت إلى العالم، تعاني أزمة مجتمعية حقيقية تتجلى في تهميش الطبقات الفقيرة، وتقلص الطبقة المتوسطة، وغياب العدالة الاجتماعية، والشعور بفقدان الهوية والخوف من ضياعها، خصوصاً لدى البيض من الأميركيين، الذين باتوا ينجذبون أكثر فأكثر إلى الخطابات الشعبوية التي تركّز على دور السود والهجرة من أميركا اللاتينية في فقدان الأمن والوظائف وضياع الثقافة الأميركية التقليدية.
تستفيد الطبقة التقليدية السياسية من هذه الاتهامات السالفة الذكر، لأنها تحيّد مسؤوليتها المباشرة عن السياسات الاقتصادية الداخلية والخارجية التي تعمل لمصلحة الشركات الكبرى، والمجمّع الصناعي العسكري، واللوبيات الأقوى في النظام.
ولعل أبلغ مؤشّر إلى عمق الأزمة التي يعيشها المجتمع الأميركي هو التقارير التي تقول إن الولايات المتحدة حقّقت 13 تريليون دولار أميركي بين عامي 2001 و2020، فيما حققت الصين 11 تريليون دولار، المفارقة أن الصين استغلت هذه الأرباح لتنتشل 823 مليون إنسان من الفقر، فيما حصل 10% من المواطنين الأميركيين على ما يعادل 90% من هذا الناتج.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.