تركيا وإيران انفتاح تكتيكي أم مصلحة إقليمية؟
في إطار التحوّلات الإقليمية المتسارعة وبعد نحو عام من سقوط نظام الرئيس الأسد، تأتي زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى طهران لتوضح رغبة أنقرة التنسيق مع طهران في قضايا المنطقة، مع تصاعد التهديدات الأمنية الناجمة عن التحركات الإسرائيلية في المنطقة.
وفي ظل الصراع التركي- الإسرائيلي على النفوذ في سوريا وغزة تنفتح تركيا على إيران، إذ تُشجع عوامل عدة على اللقاء أهمها المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة والتطورات الإقليمية الأخيرة، في إطار رغبة متبادلة في تعزيز التكامل الاستراتيجي بين الدول الإسلامية لمواجهة التحديات المشتركة، بعد أن عززت الهيمنة الأميركية اليد الإسرائيلية في المنطقة.
تتطلب التطورات في سوريا والعراق تنسيقاً بين أنقرة وطهران لمنع تفاقم الأزمات وضمان مصالحهما، رغم وجود بعض الاختلافات في الرؤى يطرح التنسيقُ الإقليميُ كضرورة لضمان الاستقرار ومنْعِ تفاقم التوترات الطائفية أو العرقية.
تطور الأوضاع الميدانية يحتم رفع قدرة الملف السوري كي يتحوّل إلى منصة لتنسيق أوسع بين الجانبين، عدا التنسيق حول ملفات مكملة مثل العراق وجنوب القوقاز. فغياب التعاون بين البلدين يمكنه إعطاء الأميركي والإسرائيلي فرصاً تعرض المنطقة لتهديدات خطيرة.
تعقيدات العلاقة ومشتركاتها
العلاقة بين إيران وتركيا معقدة فهما تتنافسان على النفوذ في مناطق مثل العراق وشرق المتوسط، ولكنهما تتعاونان في القضايا التي تتقاطع فيها مصالحهما الأمنية والاقتصادية.
يشدد البلدان على أهمية استقرار المنطقة وحلّ النزاعات الإقليمية، خصوصاً في سوريا حيث تتنافس تركيا و "إسرائيل" على ملء الفراغ الإقليمي المتغير في الشرق الأوسط، لا سيما في ظل تراجع نفوذ إيران. شعور أنقرة بأن أمنها الإقليمي مهدد بشكل مباشر من قبل "إسرائيل" يحملها على التواصل مع إيران.
تدعم الولايات المتحدة "إسرائيل" تحت غطاء الحق في الدفاع عن النفس في الوقت الذي تتوسع فيه "تل أبيب" وتمنع تركيا من بناء أي قاعدة من أجل تدريب الجيش السوري. من هنا، يسعى الجانبان التركي والإيراني إلى تنسيق المواقف بشأن التطورات الأخيرة في سوريا ومنع زعزعة استقرارها، معتبرين أن أمن سوريا مرتبط مباشرة بأمن المنطقة، وقد تم بحث ردّ فعل سكان الجنوب السوري على الاعتداءات الإسرائيلية ومحاولات العبث بأمن السكان وأرزاقهم.
كما تتفق الدولتان على أهمية الحفاظ على استقرار العراق، حيث لديهما هدف مشترك يتمثل في منع الجماعات المسلحة التي تهدد أمنهما القومي من استخدام الأراضي العراقية كقاعدة لها، مثل حزب العمال الكردستاني بالنسبة إلى تركيا، والأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة بالنسبة إلى إيران.
العراق سوق مهمة لكل من إيران وتركيا. تسعى الدولتان إلى تعزيز التبادل التجاري وتسهيل حركة البضائع عبر المنافذ الحدودية البرية العديدة. هناك أيضاً محادثات حول مشاريع مشتركة مثل إنشاء مناطق حرة مشتركة.
تسعى كلتا الدولتين إلى علاقات مستقرة مع حكومة إقليم كوردستان العراق، رغم اختلاف نفوذهما هناك. يجمعهما القلق المشترك من أي خطوات قد تؤدي إلى انفصال الإقليم وتغذية النزعات الانفصالية لدى الأقليات الكردية داخل حدودهما.
تتشارك الدولتان حدوداً طويلة، وهناك مصلحة مشتركة في التعاون الأمني، خصوصاً في مكافحة التنظيمات الإرهابية. هذا التنسيق يمكن أن يشملَ قضايا عدةً، وترتيبات إدارة الحدود إذ تُعدّ إيران شريكاً تجارياً رئيسياً لتركيا، ويسعى البلدان إلى تعزيز التعاون في مجالات التجارة والاستثمار والطاقة، بما في ذلك بحث تمديد اتفاقيات تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا.
ما الاستعدادات الكامنة؟
تقف تركيا إلى جانب إيران في بعض القضايا الدولية، مثل الملف النووي الإيراني، وتدعو إلى رفع العقوبات "الجائرة" المفروضة على طهران.
وهي تمارس سياسة "المناورة والتوازن"، مستغلة علاقاتها المتشابكة مع جميع الأطراف لتعظيم نفوذها، وتأكيد مصالحها القومية في منطقة شرق أوسط متقلبة. بينما تنظر إيران إلى التقارب التركي على أنه فرصة لكسب نقاط سياسية وتعزيز موقفها الإقليمي.
تعاني إيران من عزلة دولية وعقوبات اقتصادية شديدة. الانفتاح التركي يمنح طهران متنفساً سياسياً واقتصادياً، ويظهر أنها ليست معزولة تماماً في المنطقة ويمكنها بناء تحالفات بديلة. وقد اتفقت الدولتان مؤخراً على بناء خط سكة حديد مشترك.
وللحرب في غزة دور في تقريب وجهات النظر بين تركيا وإيران حيث تتشاركان الموقف المناهض للعدوان الإسرائيلي.
الحرب في غزة التي وصفتها تركيا بالإبادة الجماعية أثارت الغضب الشعبي والضغوط السياسية الداخلية، الأمر الذي حمل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى اتخاذ موقف حاد ضد "إسرائيل" وقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية.
تقف أنقرة موقفاً متعارضاً مع "إسرائيل" في ما خصّ حركة حماس في غزة، وتعارض "إسرائيل" أي دور تركي في عملية السلام بسبب دعم أنقرة للحركة.
مواجهة "إسرائيل" ورفض الأجندات الغربية في المنطقة، يوفران أرضية للتعاون التكتيكي رغم تنافسهما الأيديولوجي.
التقارب التركي- الإيراني يريح القوى السياسية الإسلامية كالجماعة الإسلامية المتحالفة مع حزب الله وحماس والفصائل الإسلامية المعتدلة ما يخلق جبهة مساندة سياسياً وأمنياً في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
مآلات التباعد التركي- الإسرائيلي والموقف الأميركي
يمكن لهذه العلاقة أن ترسل رسالة قوية إلى الولايات المتحدة وحلفائها بشأن رفض التدخلات الإقليمية، خاصة أن تركيا عبّرت عن رفضها للاعتداءات الإسرائيلية على سوريا ولبنان. الانفتاح بين البلدين يعمق التباعد في العلاقات مع "إسرائيل"، حيث ترسل تركيا إشارة ردع وموازنة للنفوذ الإسرائيلي المتصور في المنطقة، لا سيما في سوريا وشرق المتوسط.
ترفض تركيا الخطوات الإسرائيلية التي قد تؤدي إلى "حرب إقليمية واسعة النطاق"، وتؤكد أنها لن تنجر إلى تحالف إقليمي مناهض لإيران تقوده "إسرائيل" والولايات المتحدة.
يمكن اعتبار التقارب التركي الأخير بمنزلة رسالة سياسية قوية ومناورة استراتيجية متعددة الأوجه موجّهة إلى الولايات المتحدة الأميركية الداعمة لـ"إسرائيل".
الهدف الرئيسي لأنقرة هو تأكيد استقلالية قرارها الإقليمي وقدرتها على إعادة تعويم علاقتها بإيران، خاصة عندما تختلف مصالحها مع واشنطن.
في ظل التوترات غير المسبوقة مع "إسرائيل" بسبب عدم تنفيذ الاتفاق في غزة بعد أن لعبت تركيا دور الوسيط مع حماس لإقناعها بقبول مشروع ترامب، وتعنّت "إسرائيل" وإصرارها على تنفيذ الأجندة الخاصة بها ضاربة عرض الحائط الاجتماع الذي جمع القادة العرب والمسلمين مع الرئيس الأميركي في شرم الشيخ، واستمرار قصفها للغزيين وعدم الاستجابة لإنقاذ المقاومين من الأنفاق والمماطلة في تنفيذ الجزء الثاني من الاتفاقية، الأمر الذي أظهر عجزاً تركياً.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً