إضعاف "حركة النهضة" في تونس يُربك الحسابات التركية.
عندما تمّت إطاحة الرئيس المنتخَب، ذي التوجهات الإسلامية، محمد مرسي عام 2013، اعتبرت تركيا أنها تلقّت صفعة لمشروعها الإسلامي، واتّهمت الولايات المتحدة الأميركية بالسماح لحلفائها بتدبير "الانقلاب الشعبي".
قاد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان التجمعات العامة في الدفاع عن مرسي، وتحمَّل مسؤولية التحريض على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فانقطعت العلاقة السياسية بين الدولتين.
لكن تركيا شعرت بالإرباك عند إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 تموز/يوليو الماضي، عبر وسائل الإعلام المتلفزة، استناده إلى الدستور التونسي والمادة 80 منه، واتخاذه إجراءات استثنائية لمدة 30 يوماً، مستنداً إلى حالة وجود خطر وشيك يهدّد البلاد وأمنها واستقلالها، وطلبه من رئيس الوزراء تقديم استقالته، وإبلاغه رئيس البرلمان راشد الغنوشي القرارات الاستثنائية التي اتخذها، مدعوماً من القوات المسلحة التونسية.
في إثْر ذلك، أجرى وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو اتصالاً بوزير الخارجية التونسي، معترفاً بشرعية المؤسسات التونسية، ومؤكداً دعم تركيا للشعب التونسي، ومشدداً على اهتمام بلاده بالاستقرار والرخاء في تونس، التي كانت شهدت احتجاجات في 25 تموز/يوليو الماضي طالبت بتنحّي الحكومة وحلّ البرلمان.
هاجم محتجّون مقرّ "حركة النهضة" الإسلامية المعتدلة، وهي أكبر حزب في البرلمان، في أثناء الاحتجاجات، وشهدت عدة مناطق إحراق مكاتبها. بدت هذه التظاهرات كأنها موجَّهة حصراً ضد "النهضة"، واتهمتها بالفساد، كأنّ هناك نفياً لمسؤولية أحزاب أخرى عن تردّي الأوضاع التي يتحمّل انتشار وباء كورونا جزءاً منها، إذ أدّى إلى تدهور الأوضاع المعيشية في بلاد يعتمد دخلها القومي أساساً على السياحة.
يتمتع حزب "العدالة والتنمية" التركي بعلاقات وثيقة للغاية بحركة "النهضة" ورئيسها راشد الغنوشي، الذي يشترك في السلطة من خلال الحكومة الائتلافية المنقسمة في تونس، وهو رئيس للبرلمان، واتهم الرئيس سعيّد بشنّ انقلاب على الدستور التونسي و"ثورة الياسمين" عام 2011، بمساندة مصر والإمارات.
تبدو الآليات التي تعمل عليها السلطة في تركيا واضحة هذه المرة، إذ تلتزم الرئاسة ووزارة الخارجية التركيتان الموقفَ الرسمي، ولا تخلطان بين انتماء حزب "العدالة والتنمية" ومصلحة الدولة التركية، وهما جاهزتان للتعامل مع الاعتراف، دولياً وإقليمياً، بشرعية المؤسسات التونسية.
تضبط أنقرة ردود فعلها، وتستدرك أن خطوة وزارة الخزانة الأميركية، وقبلها تحركات الكونغرس، والتي تمثّلت بمشروع من أجل تصنيف جماعة "الإخوان المسلمين" "منظمة إرهابية"، ستظلّ سيفا مُصلتاً فوق رأس الجماعة، مع أنه ليس أمراً يسيراً، وإنّما يمكن اعتباره مؤشّراً على انتهاء فترة دعم الإسلام السياسي، والذي ساد زمن هيلاري كلينتون وانتهى مبكّراً في مصر. تردّد وزير الخارجية الأميركي الأسبق ريكس تيلرسون في طرح هذا الموضوع على الكونغرس، إلّا أن بومبيو طرح المشروع في الكونغرس عند تولّيه وزارة الخارجية الأميركية.
ترى أنقرة نفسها بين نارين: المحافظة على علاقاتها بحركة "الإخوان المسلمين" في الدول العربية من جهة، ومن جهة أخرى جهودها الأخيرة من أجل إصلاح العلاقات بمصر و"إسرائيل" ودول مجاورة أخرى، والتي تختلف معها على نحو ملحوظ بسبب دعمها خصومها في حركتي "الإخوان المسلمين" و"حماس".
وكان الرئيس التركي زار تونس في كانون الأول/ ديسمبر 2019، ساعياً للحصول على دعم سعيّد لتوجيه القوات التركية والمعدات العسكرية إلى طرابلس عبر تونس، لكن تمّ رفض طلبه في أوائل عام 2020. وهو استشفّ، من خلال هذه الزيارة، وقوف الرئيس التونسي ضدّ وجود تركيا في ليبيا، وقربه من موقف مصر.
وكانت مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة دعمتا القوات الليبية بقيادة خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق الوطني المقربة من تركيا. فهل ستنعكس المتغيرات في تونس على الانتخابات المقبلة في أواخر كانون الأول/ديسمبر في ليببا، التي يتزعّم حكومتها مقربون من تركيا؟
ظهر الرضا الأميركي من خلال التواصل بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع الرئيس التونسي، وتشجيعه على التزام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمحافظة على حوار مفتوح مع جميع الفاعلين السياسيين والشعب التونسي، وكذلك فعل الاتحاد الاوروبي. وكانت أحزاب المعارضة العلمانية في تونس اتهمت الغنوشي بمساعدة حكومة الوفاق الليبية السابقة بقيادة شخصيات متعاطفة مع جماعة "الإخوان المسلمين".
وسائل إعلامية موالية للمشير خليفة حفتر في ليبيا وأخرى في دبي وعمان أبدت سرورها، وشجعت خطوة الرئيس سعيد التي وُصفت بـ"الانقلاب" الدستوري، فليبيا هي الشريك التجاري الأكبر لتونس، واستقرار الأخيرة ـ أو عدمه ـ يؤثّر على نحو كبير في ليبيا التي تقودها حكومة قريبة من تركيا.
تركت أنقرة الحرية لوسائل إعلامها الموالية للتعبير عن موقفها بشأن الحدث التونسي، فاعتبر بعض المحلّلين، كياسين أقطاي وإبراهيم كاراغول، أن تركيا على دراية بالضربات التي يمكن أن تتَّخذ أشكالاً متعددة، وعدداً من الوجوه، بعد أن خضعت لعدة انقلابات يظهر فيها الجيش على دباباته بأمر من الشعب، ثم يكون للانقلاب وجه ما بعد حداثي يوازن بين الديمقراطية والإعلام والمنظمات غير الحكومية وبعض "الدولة العميقة". ويعدّد أقطاي أشكال الانقلابات التي عاشتها تركيا وتعيشها بعض البلدان، كتونس التي تعتمد على التواصل الاجتماعي والإنترنت والتظاهرات الديمقراطية، التي يتم عبرها استخدام جزء من الجمهور ضد شريحة أخرى من الجمهور.
توجَّهت أنظار الإعلام التركي الموالي نحو الإمارات ومصر والدعم الفرنسي الذي يختلف اختلافاً جذرياً مع تركيا في كل من ليبيا وتونس وسوريا، وفي إعادة تحويل متحف آيا صوفيا، وقضية استغلال الموارد الطبيعية من الغاز والنفط في شرقي المتوسط. والأهم هو المنافسة في ملعب جديد؛ في فضاء حيوي تاريخي لفرنسا، أي أفريقيا.
يرى إسلاميون أن الغنوشي قدَّم تنازلات كثيرة في تونس، حتى إنهم اتهموه وعبدالفتاح مورو بالبراغماتية إلى درجة التخلي عن بعض ما في جوهر الإسلام السياسي. أمّا حزب "العدالة والتنمية" فهو يشاهد الانقلابات تتوالى على حركات "الإسلام السياسي" في المنطقة، ويشعر بأن نفوذه يتضاءل ويتقلّص، ويعود به إلى ما قبل "الربيع العربي"، ويدعوه إلى تغيير الدور.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً