من القوقاز إلى البلقان وآسيا الوسطى.. تركيا بحاجة إلى روسيا!
يحظى مشروع الحزام والطريق بأهمّية جيو - اقتصادية وجيو - سياسية كبرى بالنسبة إلى تركيا، وهناك من يعتبر أنّ الجانب التركي كان أوّل من حاول إعادة إحياء هذا الطريق بعد تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلال العديد من جمهوريات آسيا الوسطى الناطقة بالتركية.
تتطلع تركيا إلى آسيا الوسطى ومن خلالها إلى شرق آسيا أيضاً، باعتبارهما من المناطق التي تمتلك من المقومات الثقافية والجغرافية والاقتصادية، ما يسمح لهما بتحقيق القفزة الاقتصادية المطلوبة، ورفع معدلات النمو الاقتصادي.
في إطار هذه التطلعات، خاضت تركيا معركة ناغورنو كاراباخ إلى جانب أذربيجان، أدى الانتصار إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا، لكن برعاية روسية، يوم الـ 10 من تشرين الثاني/نوفمبر 2021، إضافة إلى شقّ ممرّ لوجستي يحوي طرقاً سريعة وخطوط سكك حديدية عبر الأراضي الأرمينية في منطقة "زنغازور" من أجل ربط أذربيجان، عبر ممر يلشن، بأراضيها الواقعة في منطقة ناخيتشيفان.
فتح ممر "زنغازور"، تحت حماية خدمة أمن الحدود الروسية، يزيل الكثير من العوائق التي لطالما واجهتها باكو طوال العقود الثلاثة المنصرمة، لكونه سينعش ناخيتشيفان واقتصاد المنطقة برمّتها.
اهتمام تركيا بتحرير كاراباخ يتلخص بفتح الباب إلى آسيا الوسطى، ويعمّق العلاقة بأذربيجان التي ستصبح مركزاً لوجستياً غاية في الأهمية في منطقة القوقاز، ما يجعل من باكو لاعباً أساسياً في التجارة العالمية التي تمرّ عبر الأراضي الأوروآسيوية، ونقطة التقاء مهمة على طول طريق الحرير الصيني المنطلق من وسط الصين باتجاه أوروبا، وستُقلَّص المسافة بين أذربيجان وتركيا، من خط سكة الحديد الممتد من مدينة قارص التركية شرقي الأناضول مروراً بالعاصمة الجورجية تبليسي وصولاً إلى باكو عاصمة أذربيجان.
يحظى ممر "زنغازور" أيضاً بأهمية استراتيجية غاية في الأهمية لكلٍّ من الصين وروسيا. وبحسب الاتفاقيات الموقّعة بين روسيا وأذربيجان وأرمينيا، سيكون دوره أكثر من كونه طريقاً، يفتح الأبواب أمام حركة تجارية بالمليارات، إذ تشهد آسيا الوسطى تنافساً دولياً بين أميركا والصين وروسيا، عدا التنافس الإقليمي الذي تفرضه إيران.
وقّع البلدان على اتفاقية وقف إطلاق النار، وبدأت أذربيجان بناء خط سكة حديد، وتُجري الحكومة الأذربيجانية مباحثات حثيثة مع الروس من أجل بناء مقطع طوله 43 كيلومتراً، نظراً إلى أن ملكية السكك الحديدية في أرمينيا تعود إلى روسيا.
"الانفتاح" الأذربيجاني الأرميني، سيسهّل تسريع المفاوضات بين أنقرة ويريفان. فهناك مكاسب إقليمية اقتصادية كثيرة تشجّعهما على إنجاز تفاهم، والفرصة استراتيجية بالنسبة إلى أرمينيا التي تحتاج إلى النهضة الاقتصادية، لكن هناك أيضاً عراقيل وعقبات كالتشدّد القومي لدى الطرفين، أما العواصم الغربية فهي تبحث عن حصتها في القوقاز.
شرعت في الأشهر الأخيرة كل من أنقرة ويريفان، عاصمة أرمينيا، بدعم روسي وبعد عقد اجتماع في بروكسل بوساطة فرنسية، في عقد طاولة تفاهمات من أجل العمل على تقاسم نفوذ اقتصادي وإقليمي بين دول جنوب القوقاز تستفيد منه دول الجوار من أجل تحقيق الكثير من المشاريع الاستراتيجية. التصريحات المتبادلة بين تركيا وأرمينيا هي باتجاه تحسين العلاقات والصلح.
تشعر أنقرة بمحاولات تهميشها من جانب الغرب، لكنّ ما يقلقها أكثر هو احتمال وجود محاولة التفاف روسية على دورها ومصالحها هناك، عبر تنسيق مباشر بين موسكو وعواصم غربية، لذلك هي تتمسّك بخطّتها القائمة على ترتيب منصة سداسية في إطار منتدى إقليمي مجموعة "3+3" يتألَّف من دول جنوب القوقاز أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، إضافة إلى إيران وروسيا وتركيا، للاستفادة من المشاريع العملاقة التي تنتظر المنطقة.
مسار الحوار التركي الأرميني ومصيره سيكونان مرتبطين بتقدّم المفاوضات الأرمينية الآذرية ونتائجها على الأرض، ثمّ بنتائج مفاوضات المنصة السداسية في جنوب القوقاز التي دعت إليها تركيا، مع صعوبة جمع هذه الدول. تمسك روسيا بخيوط اللعبة في جنوب القوقاز على حساب مجموعة مينسك، وهي تدعم الحوار التركي الأرميني.
لكن هل ستقبل واشنطن بسلام ينطلق في منطقة تلعب فيها موسكو الدور الأكبر؟ ومن يضمن عدم استعانة الأميركي باللوبي الأرميني (الدياسبورا) الموجود في واشنطن لعرقلة التفاهمات التي ترعاها روسيا، ولا سيما بعد المتغيّرات الإقليمية وما جرى في كازاخستان وتدخّل روسيا وحلفائها في "منظمة الأمن الجماعي" لحسم محاولة الانقلاب التي جرت وشكلت اختباراً ومواجهة إقليمية جديدة في آسيا الوسطى مع الأميركي، وكانت قد طرحت تساؤلات حول الدور التركي، ولا سيما أن تركيا يمكن أن تكون المستفيدة إلى جانب الأميركي من نجاح الانقلاب.
من الواضح أن نجاح الانقلاب كان سيغيّر وجهة المحادثات التي تجري بين أرمينيا وأذربيجان. اختيار روسيا لإنقاذ كازاخستان لا تركيا التي كانت قد عقدت مؤتمراً استضافت فيه قمة للدول الناطقة باللغة التركية في الـ 12 من تشرين الثاني/نوفمبر الفائت وجرى إطلاق مسمّى منظمة الدول التركية عليها، الاختيار الروسي فاجأ تركيا التي قد تكون أكثر المتضررين في المنطقة بعد أن أفشلت روسيا المشروع من أجل تموضع إقليمي جديد وتقليص النفوذ الأميركي الغربي في البلاد، وعملت كذلك على قطع الطريق أمام مشروع منظمة الدول التركية بعد تقدّم فرص تركيا وحظوظها في منطقة القوقاز، وراهنت على التخلص من سطوة روسيا في المنطقة.
أكثر ما أزعج تركيا هو وجود قوات أرمينية في إطار منظمة الأمن الجماعي، التي كانت في كازاخستان بدعوة من نور سلطان، من أجل ضبط الأمن، كذلك ترجيح القيادة الكازاخستانية التنسيق مع موسكو ومنظمة الأمن الجماعي، في معالجة ملف الأزمة، كذلك وقوف طاجيكستان وقرغيزستان في جبهة واحدة إلى جانب روسيا، في الوقت الذي اعتقدت فيه تركيا أنها تكسبها إلى جانبها.
كانت تركيا قد أعدّت نفسها للجلوس إلى طاولة المفاوضات الاستراتيجية الجديدة على خطّ أوراسيا، وتنسيقها في أفغانستان مع قطر وباكستان. باءت حسابات تركيا بالفشل الواضح، وذلك أن روسيا لن تسمح بتغيير التوازنات والمعادلات على حسابها، بما يتعارض مع ما تريده هناك، ولن تقبل بدور فرنسي أو إسرائيلي في المنطقة، فالقرار سيبقى لروسيا، وسيكون هو الأساس في آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان... فهل ستستسلم واشنطن بمثل هذه السهولة وتقبل بهزيمة إقليمية ثانية في كازاخستان، بعد خسارتها في أفغانستان؟
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.