لماذا تسعى تركيا إلى الحياد بين روسيا وأوكرانيا؟
شبح الحرب في أوكرانيا يثير القلق في تركيا بسبب تبعات الصراع بين أوكرانيا وروسيا.
تأتي محاولة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان القيام بوساطة بين البلدين كبادرة للحفاظ على المكتسبات التي يحققها في علاقته مع الرئيس الروسي. هو يعي أنه أغضب بوتين في تضامنه مع كييف ودعم استراتيجية الناتو لتوسيع نفوذه في البحر الأسود، باعتباره جزءاً من الناتو، ما يطرح علامات استفهام عديدة بالنسبة إلى روسيا بشأن التزامه بمعاهدة مونترو 1936 التي تنظّم حركة النقل البحري عبر مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطان بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. وتكمن أهمية الاتفاقية في كونها تفرض قيداً على السفن العسكرية للدول غير الساحلية، وهذا يعني تقييد وصول القوات البحرية الأميركية وقوات حلف الناتو إلى البحر الأسود.
يريد إردوغان لعب دور محايد، فهو دعا الرئيس بوتين وزيلنسكي، الرئيس الأوكراني، منذ فترة، إلى اللقاء في تركيا، وخطّط لزيارة كييف وموسكو من أجل هذا الهدف في شهر شباط/ فبراير، لكن بوتين لم يستجب لهذه المبادرة. يرى إردوغان أن الصراع يجب أن يُحلّ في دونباس على أساس وحدة الأراضي الأوكرانية، وهو لطالما جاهر في موقفه الرافض لاستعادة موسكو شبه جزيرة القرم، لكن لا يبدو أن موسكو بصدد إعطاء هذه الوساطة أهمية في الوقت الحاضر، بل قالت إن عليه أن يؤثر على صديقه زيلنسكي وينصحه بعدم خوض هذه المغامرة العسكرية في دونباس، وتنفيذ اتفاقات مينسك 2015، وإنه ليس لموسكو مشكلة مع أوكرانيا، مشكلتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
في حديثه عن مبادرة إردوغان، ركّز ممثله إبراهيم قالن على أن تركيا مستعدة لـ"لعب دورها" في عملية خفض التصعيد، الدور الذي لا يتناسب تماماً مع المخطط العام للسياسة الغربية تجاه روسيا.
تعتبر روسيا أن قيام إردوغان بزيارة لأوكرانيا متناسقة مع انتمائه إلى حلف الناتو، وترى أن تركيا من خلال علاقتها مع موسكو حققت في السياسة الخارجية ما لا يمكنها تحقيقه في 70 عاماً من انتمائها إلى حلف الناتو. فلطالما اشتكت أنقرة من كون الناتو يتصرف معها كأنها أصغر الأعضاء، ولا يبالي بمشكلاتها، ويطلب منها التضامن المطلق مع قراراته.
لكن لتركيا مصالح مع أوكرانيا وعلاقات تجارية، فهي تمثّل مصدر التكنولوجيا التي تحتاج إليها أنقرة، وهي قامت بتصدير الطائرات المسلّحة من دون طيار إلى كييف، وشرع البلدان في توقيع مذكرات للتعاون في مجال التسليح والصناعات الدفاعية. الشراكة التي تجمع بين البلدين في مجال التصنيع العسكري مهمة بالنسبة إلى تركيا. أوكرانيا تعتبر مزوّداً لها بالكثير من المعدات العسكرية.
يشعر إردوغان بالحاجة إلى استرضاء بوتين، نظراً إلى الصداقة التي تربط أنقرة بموسكو، والتي اكتسبت توجّهاً استراتيجياً. حاول الوقوف في الوسط بين الولايات المتحدة وحلفائها والموقف الأوروبي، ولا سيما ألمانيا وفيينا. يبدو أن سياسة الحياد هي ما تنوي تركيا اتباعها، ولا سيما في ظل التكتلات العالمية الجديدة. أنقرة لا تريد الانجرار إلى أحد الطرفين. هي تدعم التسوية الأوكرانية، ويتميز نهجها بالوقوف على مسافة متساوية بين الأطراف، والتخلي عن أي ضغوط. لكن قد يُجبِر التصعيد العسكري في شرق أوكرانيا أنقرة على اتخاذ قرارات صعبة، ولا سيما في ما يتعلق بمسؤوليتها في الحفاظ على طريق الملاحة عبر المضيق التركي. مصالحها مع موسكو عديدة، وهي تريد أن تتجنّب أيّ مواجهة معها.
دخول تركيا الحرب مع أوكرانيا سيؤثر سلباً على العلاقات التركية الروسية في كل الملفات؛ حيث ستتراجع العلاقات الاقتصادية والسياحة والتبادل التجاري، ولا سيما واردات القمح وتوريدات الغاز بينهما ومفاعل اكويو وتوسيع نفوذها في القوقاز وآسيا الوسطى، وسيشتعل الوضع في سوريا والخلاف في ليبيا. أما إذا انحصر دعمها في الجانب السياسي والإعلامي، فلن يكون سابقة في تاريخ الأزمات بينها وبين موسكو.
رفضت تركيا حتى الآن الانضمام إلى العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا. وهي رغم اهتمامها بأوكرانيا وتحدّيها روسيا في غير ساحة، تعي أن المسألة الأوكرانية مسألة حساسة، ولن تكسب في هذا الموقف، بل سيكون وبالاً عليها، ولا سيما أن لها تجارب مع الناتو الذي لم يلتفت إليها عندما أسقطت طائرة السوخوي، بل تركها تواجه موسكو وحيدة، كذلك فعل الأوروبيون في سوريا. أصبح جلّ اهتمامهم عدم زحف اللاجئين إليهم. أما الولايات المتحدة في إثارتها للمسألة الأوكرانية والتصعيد مع روسيا، فهي تسعى إلى معاقبتها على تدخلها في الانتخابات الأميركية، وعلى قضايا عديدة، وفرض عقوبات مصرفية عليها مرتبطة بالحرب السيبرانية، وهي تريد جرّ تركيا إلى الخصام مع روسيا، بعد أن تعمّقت العلاقة بين الطرفين، في الوقت الذي بدا لها واضحاً أن أوروبا وقفت ضدها في سعيها للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، كذلك الولايات المتحدة دعمت اليونان وقبرص و"إسرائيل"، واستبعدتها قبل أن تعرض عن المشروع وتبلغ هذه الدول انسحابها من المشروع لأسباب بيئية وتجارية.
قد تكون تركيا أحسّت بالانتصار، لكنها أصبحت ترى بشكل واضح أن الغرب يبحث عن مصالحه فقط، ويمكن أن يترك حلفاءه في وسط المشكلات وينسحب. ترى موسكو أنه ليس من المستغرب أن يناقش الجمهور في تركيا سنوياً، وبجدية، جدوى الاستمرار في عضوية الحلف، لأن نظرة تركيا تختلف عن نظرة حلف شمال الأطلسي إلى الأمن.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.