حل الدولتين.. هل من تناقضات بين واشنطن و"تل أبيب"؟
أتت زيارة نفتالي بينيت للبيت الأبيض في الولايات المتحدة الأميركية من أجل طيّ صفحة العلاقة الإسرائيلية المرتبكة بالإدارة الديمقراطية وآثار تجربة جو بايدن مع بنيامين نتنياهو، والتي استمرت ثماني سنوات كنائب للرئيس الأميركي باراك أوباما. حاول بينيت أن يُثبت لبايدن أنه مغايرٌ تماماً عن نتنياهو، الذي يحمّله الديمقراطيون مسؤولية تردّي علاقات "إسرائيل" بالحزب الديمقراطي، الذي لطالما راهن على شرق أوسط كبير، كما كان يراه شمعون بيريز. فأتى اللقاء مثمراً، في أكثر من صعيد.
بعد العودة إلى "إسرائيل" مباشَرة من الولايات المتحدة، تمّ تعيين السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل دان شابيرو مستشاراً لفريق روبرت مالي، مبعوث الإدارة بشأن إيران. بدا التعيين مؤشِّراً إلى طمأنة بينيت بشأن محادثاته بشأن إيران، وسيكلّف شابيرو تنسيقَ المواقف مع "إسرائيل" بشأن المفاوضات التي ستجري بين الولايات المتحدة وإيران.
شغل شابيرو منصب سفير في "إسرائيل" في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، وهو يتمتع بثقة معظم صُنّاع القرار الإسرائيليين، وعلاقاته الوثيقة ستُسهّل تعزيز علاقته بالمسؤولين الإسرائيليين بعد الفشل في إقناع نتنياهو بجدوى الاتفاق النووي مع إيران عام 2015. لم يحاول بايدن إقناع بينيت بأهمية العودة إلى الاتفاق النووي، لكنه سعى، بدلاً من ذلك، لضمان ألاّ تقوم "إسرائيل" بأعمال استفزازية.
استطاع بينيت أن يكسب صداقة الرئيس بايدن، بعد لقاء دام خمسين دقيقة في البيت الأبيض. حصل على كل ما يريده من بايدن، من حيث التعهُّدات العلنية، وأهمها أن الولايات المتحدة ستعطي الأولوية للدبلوماسية من أجل منع برنامج إيران النووي، وإبقاء الحلول الأخرى على الطاولة في حال فشلت المحادثات.
من الواضح أن بينيت كان يريد التزاماً أقوى من بايدن، فـ"إسرائيل" لا يمكنها تحمُّل إيران كدولة تطوّر نووية، حتى لو تحمّلت واشنطن ذلك. لكنّ بينيت رغب في بناء علاقة ثقة شخصية ببايدن، وتوضيح أن "إسرائيل" عادت إلى كونها حليفاً مخلصاً ومنفصلاً وموثوقاً، يأخذ المصالح الأميركية على محمل الجد.
حاول أن يُثبت لبايدن أن بعض جوانب الحياة في "إسرائيل" تحسّن منذ رحيل نتنياهو عن السلطة، إلاّ أنه كان منزعجاً من قرار فتح القنصلية الأميركية في القدس، والتي اعتبر أن الغاية منها إرضاء الفلسطينيين. الخطوة الأميركية بشأن إعادة فتح القنصلية مهمة بالنسبة إلى واشنطن من أجل إصلاح العلاقات الأميركية ـ الفلسطينية، في الوقت الذي يضع بعض الفلسطينيين آمالاً في دفع المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن شدّد، خلال زيارته رام الله في أيار/مايو، على أهمية تخفيف المصاعب التي تعانيها السلطة الوطنية الفلسطينية، وضرورة توافق الأجندة الرسمية لـ"إسرائيل" مع الأجندة الرسمية للولايات المتحدة كي تنعم "إسرائيل" بحالة استقرار سياسي داخلي، وانسجام دولي مع حليفتها واشنطن.
هل هناك اختلاف حقيقي بين أجندة بينيت الرافضة إقامةَ دولة فلسطينية، وأجندة بايدن الداعية إلى حلّ الدولتين؟ وهل هناك أرضية مشتركة للعمل فيما يخص الملف الفلسطيني؟
حل الدولتين في الخطاب مغاير عنه في الواقع
لا شك في أن الانسجام بين واشنطن و"تل أبيب" يُعتبر أمراً حيوياً بعد الخلافات التي سادت بين الطرفين خلال فترة إدارة باراك أوباما وتعنّت نتنياهو، حين رغبت الإدارة في دفع حل الدولتين، بينما كان نهج حكومات نتنياهو هو "تدمير عملية السلام"، إلاّ أنها استعملت خيار حل الدولتين في خطابها، وجرّدته من معناه الحقيقي. استعمال الخطاب شكّل ضرورة لتتمكّن "إسرائيل" من إدارة سكان الأراضي المحتلة. أمّا سياسات الضمّ، التي انتهجتها مع ترامب، فأدّت إلى اعتراف الأميركي بالمستوطنات، وبالقدس عاصمةً لـ"إسرائيل"، وإلى تجميد الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، وساهمت في تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع دول عربية في المنطقة، وتوسيع الاستيطان.
يرفض بينيت، على نحو صريح، إقامةَ دولة فلسطينية. هدَّد بالانسحاب من حكومة نتنياهو، التي كان مشاركاً فيها، في حال قرَّر الأخير الانصياع لضغوط أوباما بشأن وقف الاستيطان. تدرك إدارة بايدن أن عملية السلام لن تكون جُزءاً من أجندة الائتلاف الإسرائيلي، وأنها ستكون السبب في انهياره. لذلك، كان تصريح بايدن واضحاً في إبّان معركة "سيف القدس"، عبر قوله إنه لا يوجد تغيير فعلي في سياسة الولايات المتحدة تجاه "إسرائيل". أعلن بايدن التزامه حلَّ الدولتين، لكن من دون ذكر الآليات أو المفاوضات، وهذا لا يتناقض مع أجندة بينيت، التي ترفض إقامة دولة فلسطينية. صنَّفت إدارة بايدن أولوياتها في الشرق الأوسط، على نحو واضح، وحصرتها في الملفين الإيراني واليمني. لكن هذا لا يمنع إمكان التفاوض مع القيادة الفلسطينية من أجل دعم الاقتصاد الفلسطيني، أو تقديم قروض إنقاذية إلى السلطة الفلسطينية، أو حثّ الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية على التوسُّط بين الفصائل الفلسطينية وردع "حماس".
بعد عودته من واشنطن، سعى بينيت إلى حل عدد من القضايا الحياتية، والتي من شأنها أن تقلّل احتقان الشارع الفلسطيني. جرى الاجتماع الأوّل بين وزير الأمن بيني غانتس ومحمود عباس في رام الله، بعد أكثر من عقد. بوادر حسن النية تجاه الفلسطينيين، وتحرُّكات اقتصادية لدعم السلطة الفلسطينية، وتمييزها من حماس في غزة، ومدّ شبكات طُرُق جديدة، وتطوير البنية التحتية للمشروع الاستيطاني، والمُضِيّ قُدُماً في فرز أراضي الضفة الغربية، ومحاربة البناء الفلسطيني، الذي يعتبره كل من بينيت وغانتس غير شرعيّ.
الحقائق التي صنعتها "إسرائيل" على الأرض تُثبت أنها لا تعمل على قاعدة حلّ الدولتين، إلاّ أنها تُعتبر مدخلاً أساسياً لتطبيع العلاقات مع دول الجوار، وتهدئة المقاومة الفلسطينية. كما أنها الأداة الوحيدة لعدم تكرار الوضع الذي كان سائداً قبيل توقيع اتفاق أوسلو. توضح الأجواء الإسرائيلية أن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، نفتالي بينيت، يخشى سَلَفَه بنيامين نتنياهو، فهو محاصَر من بايدن ومن شركائه ذوي الميول اليسارية في ائتلافه الحاكم - حزب العمل وميرتس و"راعم" من جهة - ومن جانب نتنياهو وأتباعه من جهة أُخرى.
الواقع أكثر تعقيداً كثيراً من الوعود التي قُطِعت في واشنطن. كان شركاء بينيت غاضبين من لقاء غانتس ومحمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، واتّهموه بخلق انطباع، مفاده أنه ناقش القضايا الاقتصادية والأمنية والمسائل الدبلوماسية والسياسية، إلاّ أن بينيت وعد القاعدة السياسية اليمينية بأنه لن تكون هناك أيّ مفاوضات سلام مع الفلسطينيين في عهده. وهو يعلم بأن حكومته معلَّقة بخيط رفيع، والصدام مع غزة يشكّل أحد التحديات الرئيسية التي تواجه حكومته. وأكد حرصه على إرضاء اليمين المتشدد. سلطته لا تنهار، والأميركيون مرتاحون، وهم ركّزوا على مساعدة "إسرائيل" وتوفير ما تريده. هذه الشروط ستعطي "إسرائيل" إمكان الوصول إلى ما تحتاج إليه. أمّا فريق بايدن فتوصَّل في تفاهمه معها إلى ما يهمه: المفاوضات مع إيران.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.