قبل 3 سنە
هدى رزق
381 قراءة

إردوغان القومي لـ"الناتو": تركيا أوّلاً ولكن!

مع المتغيرات السريعة التي تشهدها الساحة الدولية، بدا واضحاً أن الأولوية الجديدة لتركيا هي حماية الدولة القومية وحدودها. السائد اليوم في "تركيا الجديدة" هو عودة روح القومية، بعد أن قضى حزب العدالة والتنمية على جميع أعدائه - "الدولة العميقة" والجيش العلماني، وأخيراً أتباع غولن ـ كانت الأولوية لإعادة تشكيل الجيش والبيروقراطية والأجهزة الأمنية والتعليم. لم يغيّر إردوغان جوهر فلسفة الدولة التركية على نحو جذري، بل أبقى على عقيدة الأمن القومي. في النتيجة، هو وضع نفسه في قلب عملية صنع القرار.

هيكلة الجيش والإمساك بقراره
لم يكن لإردوغان، الإسلامي، أيّ علاقة باحتفال تمجيد العِرْق التركي. اليوم، إردوغان، القومي، حريص على أن يشهد إعادة ميلاد الإمبراطورية التركية. فهو يريد من الأتراك العودة إلى تمجيد تاريخهم، في كل مراحله. شكَّلت سلسلة الخطوات السياسية والعسكرية، رسالةً رمزية من إردوغان إلى الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا بشأن السياسة المقبلة لتركيا. أنهى الرئيس التركي خطته في إعادة هيكلة الجيش. لا شكّ في أن انقلاب عام 2016 شكّل الحافز الأساسي لإعادة هيكلة الجيش التركي. لكنّ مَن يراقب سياسة "العدالة والتنمية"، منذ عام 2007، يصل إلى قناعة مفادها أن إردوغان لم يَغْفَل مرة عن أهمية الجيش في صناعة القرار السياسي في تركيا، بعد معاناة الإسلاميين طويلاً من انقلابه على أحزابهم.

إنّها المرة الثالثة التي يتعرّض فيها الجيش التركي للهيكلة عبر جهود إصلاحية تمَّت في القرنين الماضيين. وتُعتبر هذه الخطوة من إحدى نقاط التحوُّل في تاريخ تركيا، بدأها السلطان محمود الثاني، الذي رأى أن الإصلاحات في السلطنة غير ممكنة في النظام الانكشاري، الذي دام قروناً، والذي أصبح قوة قرار رئيسية، فعمل على ضرب قوته، وبدأ الإصلاح. كذلك، قام مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، بعد إعلان الجمهورية عام 1923 وإلغاء الخلافة، بإصلاحات جذرية أدّت إلى اختيار الجنود بين البدلة العسكرية أو السياسة.

عمل حزب "العدالة والتنمية" إذاً على إخراج الجيش من السياسة، بدءاً من عام 2007، بعد أن تمّ تعزيز شراكة إردوغان الفعلية مع منظمة الداعية الإسلامي، المقيم بالولايات المتحدة، محمد فتح الله غولن، الذي كان يخترق الدولة العلمانية، من التعليم إلى الكلية العسكرية. شكّلت المحاكمات المسيَّسة، إلى حدّ كبير، مثل أركينيغون والمطرقة، عمليات لجلب الجيش التركي إلى إطاعة السياسيين، من خلال الشرطة والقضاء، اللذين كانا تحت تأثير أنصار غولن. وكانت استقالة رئيس الأركان العامة، إيشيك كوشانير، وثلاثة من قادة القوات في تموز/يوليو 2011، بمثابة موقف من السياسة المتَّبَعة تجاه الجيش وتحجيم سلطته.

 بدأت الخطوة الأولى في إعادة هيكلة إردوغان للجيش التركي إذاً، بعد خلاف إردوغان مع غولن، واتهامه بمحاولة الانقلاب، قتمَّ إغلاق المدارس والأكاديميات العسكرية، التي يُنظَر إليها على أنها الأماكن التي بدأت فيها جماعة الخدمة عمليات التجنيد. 
أمّا الخطوة الثانية فكانت موجَّهة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. دخلَ الجيش التركي سوريا بعد ستة أسابيع فقط من محاولة الانقلاب، تحت ستار قتال "داعش" في سوريا وحزب العمال الكردستاني. أراد إردوغان القول إنه ما زال ممسكاً بالقرار. 

قرَّر إردوغان، عبر إتمامه هيكلة الجيش، عدمَ إعطاء الأولوية الاستراتيجية العسكرية التركية لمصالح "الناتو"، بل لمصالح تركيا أولاً، من دون التخلي عن عضويتها فيه. شارك في احتفالات الذكرى الـ 950 لمعركة "ملاذكيرت"، وهي مناسبة تاريخية تجسِّد تاريخ الدخول الرسمي للأتراك إلى الأناضول عام 1071، عندما هزم السلطان السلجوقي ألب أرسلان الإمبراطور البيزنطي ديوجين. أعلن في الاحتفال سحب الجنود الأتراك من أفغانستان، بعد التشاور مع وزير الدفاع الوطني خلوصي أكار، وقرَّر نقل قيادة الأركان العامة والقوات من حيّ البرلمان التركي في وسط أنقرة إلى مقر جديد. أعلن بناء مجمع عسكري ضخم، رمزه الهلال والنجمة، ليضع وزارة الدفاع ورئيس الأركان العامة ومَقارّ القوات البرية والجوية والبحرية تحت إشراف سقف واحد، من أجل هدف معلن هو تعزيز التنسيق بين المؤسسات العسكرية، وفعّاليتها العملياتية.
أطلقت عليه وسائل الإعلام التركية اسم "البنتاغون التركي". وهو حرم جامعي، يجسّد إعادة الهيكلة العسكرية التي يخضع فيها رئيس الأركان العامة مباشَرة للرئيس، ويُلحق قادة القوات بوزارة الدفاع. 

وخلال بروتوكول حفل الاستقبال الذي أقامه إردوغان في 30 آب/أغسطس، احتلّ علي أرباش، مدير الشؤون الدينية، مكانة أعلى من رئيس الأركان غولر، كرمز لهذا الانتقال.

إعادة هيكلة إردوغان للجيش التركي حملت رسالتين: الأولى هي إخضاع الجيش والشؤون الدينية والأكاديمية للنظام السياسي. والثانية هي جعلُ الجيش التركي مستقلاً عن "الناتو"، وضمُّه مباشَرةً إلى القرار السياسي التركي، ونقلُه من وضع "الدفاع السلبي" إلى وضع "الدفاع النشط". لطالما شكّك الأتراك في النيّات الغربية، واعتبروا أن دخول "الناتو"، عام 1952، أضعفَ القرار السياسي، وضرب مقولة أتاتورك بشأن إبعاد الجيش عن السياسة، وهذا الأمر استخدمته الولايات المتحدة في خدمة صراعها مع الاتحاد السوفياتي.

الإسلام القومي التركي ومصلحة تركيا أولاً 
حقّق حزب "العدالة والتنمية" انتصاراً للإردوغانية على الكمالية، وليس للإسلاموية على العلمانية. فالطبقة الحاكمة في تركيا أكثر تديُّناً ظاهرياً من الجيل السابق من الحكام الأتراك، لكنها بعيدة، كلَّ البعد، عن النخب الإسلامية في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط. كان الهدف إدخال الدين في الفضاء العام، وإدخال النزعة الإسلامية المحافظة في الدولة القومية.

لا تبدو إسلاموية إردوغان تحدياً للدولة القومية. عملت المرحلة الإصلاحية لحزب "العدالة والتنمية"، من عام 2002 حتى عام 2010، على التحوُّل الديمقراطي في محاولة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن، في عام 2011، كانت الحِقْبة العثمانية الجديدة، التي بدأت بـ"الثورات" العربية، هي السائدة. كان مسؤولو حزب "العدالة والتنمية" يأملون في أن توفّر أنقرة القوة الناعمة والنموذج السياسي من أجل إعادة إنشاء الإمبراطورية العثمانية. تركَّزت مقولة حزب "العدالة والتنمية" على تغيير حدود "سايكس بيكو" في الجنوب، والتي ستصبح "مجرد خطوط باهتة على الخرائط". اعتقد الحزب أنه سوف يتوسَّع في سوريا والعراق مع الأكراد. لكن "الثورات" العربية فشلت، وانهارت عملية السلام الكردية، واستمرت الحرب في سوريا، واحتدمت الحروب الطائفية، وسقط الإخوان المسلمون.

طموحات استقلالية ولكن
حرصت تركيا على البقاء داخل حدود المعسكر الغربي، لكن يبدو أن هذا التوازن بدأ يميل لمصلحة استقلالية القرار، سياسياً وعسكرياً. وهذا ما كان بارزاً في معركة ناغورنو كاراباخ، وفي الصراع في شرقي المتوسط. يرى إردوغان ان النظام العالمي الجديد ليس سوى ساحة لمنافسة القوى العظمى بين روسيا الصاعدة والولايات المتحدة والصين وأوروبا الضعيفة. تتمثَّل رغبته النهائية بإضافة تركيا إلى هذا المزيج كقوة اقتصادية وقوة عسكرية. يراهن إردوغان على الصناعة العسكرية التركية، لكن صناعة الدفاع التركية تعتمد، على نحو كبير، على المواد الخام والمنتوجات الوسيطة من الولايات المتحدة. 

تدرك أنقرة جيداً أهمية الجهود لإصلاح العلاقات مع واشنطن، بما في ذلك محاولتها أداء دور في أفغانستان. اعتماد صناعة الدفاع التركية على المورِّدين الأميركيين والأوروبيين يشكّل السبب الأبرز في إبقاء تركيا إلى جانب الكتلة الغربية، بغضّ النظر عن مدى استعداد حكومة إردوغان للتوجُّه إلى الشرق والانفتاح على الأسواق الآسيوية. 

بعد تعرُّضها للوباء وعقوبات قانون مكافحة الإرهاب، بدأت شركات الدفاع التركية تُطلق جرس الإنذار بشأن نفاد مخزوناتها الرئيسية، من أجل مواصلة الإنتاج. تحتاج إلى موادَّ خام. قد تكون أنقرة منزعجة للغاية من هذه التبعية، لكنها مجبَرة على أن تجد بدائل، ودون ذلك صعوبات، كونها ستحتاج مرة أخرى إلى روسيا، وهي ما زالت تعاني جرّاءَ العقوبات بعد استحواذها على صواريخ "أس 400". كما أنها تخشى الانتقال من ضفة دولة كبرى إلى أخرى، فيضيع قرارها. ليس سهلاً على تركيا تغيير تحالفاتها في ظل الصراعات الحادة التي يعيشها العالم، وفي ظل المتغيّرات العالمية الكبيرة، التي تحتّم رؤية دقيقة للاصطفافات المقبلة. هل يمكن لتركيا أن تكتفي بالعمل في سياق قوتها كدولة إقليمية، وكيف ستوازن بين حاجاتها ومصالحها؟

لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP