عودة الولايات المتحدة إلى إدارة السياسة في "إسرائيل"
التخطيط الدقيق لعملية "طوفان الأقصى" أعاد تذكير العالم العربي أنه لا يمكن تجاوز فلسطين في السياسات الإقليمية، وأعاد إدراج القضية الفلسطينية في أجندة الشرق الأوسط، في ظل العمل على التطبيع الإسرائيلي مع المملكة العربية السعودية، والتي تعتبر من حيث رمزيّتها الدينية والسياسية والاقتصادية الدولة العربية الأكثر أهمية في المنطقة.
تنفيذ عملية طوفان الأقصى كان مدروساً في ظل التناقضات والمشكلات التي كانت تعتري الداخل الإسرائيلي، وانشغال الولايات المتحدة في حربها في أوكرانيا، وبعد عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خريطته "للشرق الأوسط الجديد" في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر، حيث لا وجود لفلسطين فيها، وهو كان دليلاً قاطعاً على نيّته شنّ عملية عسكرية في غزة والضفة لتهجيرهم.
عملية "طوفان الأقصى" كانت نتيجة أيضاً لعاملين أساسيّين، هما التراكم والثقة بالنفس. فقد تمكّنت فصائل المقاومة الفلسطينية مند عملية الجرف الصامد عام 2014 من اختراق الأضاليل الإسرائيلية، ومع أحداث سيف القدس بدأت بصناعة المعادلات التي أعطت دفعاً معنوياً للشعب الفلسطيني، وثقة عالية بالنفس، وأعاد الفلسطيني بناء سرديّته عبر مواجهة الصهاينة بشتى الوسائل من دون الخوف من استفزازهم ومواجهاتهم العسكرية.
لم يكن ردّ الفعل الدولي المدوّي والمساند لـ "إسرائيل" من الدول الأوروبية، والتأييد الكامل لـ "إسرائيل" الذي يُمثّل منذ عقود الركن الرئيسي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط مفاجئاً، فالغرب خسر معركته الأخلاقية بدعمه الاحتلال والمشاركة في السكوت عن عدم تنفيذ حل الدولتين، وعدم الالتزام بالاتفاقيات المعقودة مع مصر والأردن، ومحاولة تهميشها عبر محاولاته أكثر من مرة اقتحام غزة وتشجيع الاستيطان في الضفة الغربية.
دعم الغرب اللامحدود هذه المرة أعطى للإسرائيليّين دفعاً للثأر برفع العنف الدموي إلى أقصاه، والذي قارب الإبادة الجماعية لسكان غزة الفلسطينية، من دون مراعاة أيّ من الأعراف أو القوانين الإنسانية، بحجة أنّ عدد الضحايا والأسرى الإسرائيليين غير المسبوق فاق حدّ التصوّر.
التقييم الغربي للفشل العسكري والاستراتيجي الإسرائيلي في مواجهة حركة "حماس"، اعتبر أنّ الاختراق الاستراتيجي الذي تحقّق على يد المقاومة في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر هو تهديد استراتيجي لـ "إسرائيل"، مما يحتّم العمل للتأثير في السياسة الإسرائيلية، واحتضانها، والسماح للثأر بأخذ مداه، فما جرى كان نكسة ليس لـ "إسرائيل" بل للغرب الأميركي والأوروبي في معاركه المفتوحة للحفاظ على الأحادية القطبية، ولا سيما بعد بوادر تراجعهم في الحرب الأوكرانية.
كانت مسكّنات منظّمات المجتمع المدني ومنظّمات الأمم المتحدة تسد فراغ تطبيق حلّ الدولتين الذي لازم خطاب الغرب السياسي. أرسلت الولايات المتحدة أساطيلها دعماً لـ "إسرائيل" من أجل إعادة الثقة بالنفس لجنودها وسكّانها ليشعروا أنهم محميّون. عين واشنطن كانت على الجبهة الشمالية كتهديد لمن يتجرّأ على ضرب "إسرائيل" أو المشاركة في مساعدة المقاومة الفلسطينية.
التحرّكات الدبلوماسية لنيل الموافقة على خطط "إسرائيل" لتهجير الفلسطينيين إلى مصر/سيناء بحجة تفادي قتل المدنيين أثناء اقتحام غزة برياً للتخلّص من حماس باءت بالفشل. لم يستطع بلينكن نيل موافقة الأردن ومصر اللتين وقفتا ضدّ التهجير الثالث للفلسطينيين، وأكدتا ضرورة توقّف القصف الوحشيّ في القطاع ضد الأطفال والنساء والشيوخ، لكن طلبت الدول العربية من أنتوني بلينكن السماح بإرسال المساعدات، ودار البحث حول كيفية تثبيت حل الدولتين، خرج وزير خارجية الولايات المتحدة الذي كان قد أتى مسرعاً لطمأنة "تل أبيب" من الاجتماعات مع الدول العربية من دون نتائج تريح "إسرائيل"، إلّا أنّ تركيا عرضت وساطتها كطرف محايد، لكنّ الأمر لم يكن مهماً بالنسبة إليه.
في المقابل كانت تحرّكات وزير خارجية إيران السيد حسين أمير عبد اللهيان بين لبنان وقطر وسوريا، وتواصله مع اليمن والعراق تنبئ بأن محور المقاومة لن يقف متفرّجاً في حال عزم "إسرائيل" على دخول غزة، فيما فتحت الجبهة الشمالية بين لبنان و"إسرائيل".
وضع القصف الإسرائيلي الدامي أهالي غزة أمام احتمالين، الموت أو التهجير، بدا واضحاً أنّ لـ "إسرائيل" أجندتها الخاصة "الدولة البديل"، وهو مشروعها القديم والذي استحضرته، وهو تهجير الفلسطينيين من غزة إلى الأراضي المصرية، وتهجير سكان الضفة الغربية إلى الأردن.
وصل بايدن إلى "إسرائيل" وفي جعبته مسألتان ملّحتان، الأولى إثبات أن الاستراتيجية الأميركية من أجل حماية "إسرائيل" هي في صلب السياسة الأميركية، أما الثانية فهي تتجسّد في مصلحته الانتخابية. جاءت الزيارة لتؤكّد أنّ بايدن من أشدّ المؤيّدين للكيان، وأن تناقضه مع نتنياهو لا يؤثّر على العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
تربط بايدن مع اللوبي الصهيوني علاقات متينة وهو وعد بتقديم دعم عسكريّ وماليّ ونيل موافقة الكونغرس. من نافل القول إن مصالح الديمقراطيين مرتبطة بالشركات التي يمتلكها صهاينة يهود، أما مصلحة الولايات المتحدة الأميركية فهي في وجود "إسرائيل" قوية كقاعدة عسكرية استراتيجية تؤدّي دوراً سياسياً وعسكرياً.
ألقى تهمة قصف المستشفى المعمداني على حماس لأنه يعلم أنّ ما حدث هو جريمة حرب، ألغى زيارته التي كانت مقرّرة للأردن التي ترى ومصر أنه لن يكون قادراً على إنهاء العنف طالما يتصرّف كطرف. سيما وأن زيارته قد نظّمت في الأساس من أجل إظهار التضامن والدعم لـ "تل أبيب".
هل الزيارة هي لرفع المعنويات وتأكيد الدعم غير المشروط لـ "تل أبيب" فقط، ومحاولة إرهاب أطراف المقاومة بأساطيله؟ تسعى إدارة البيت الأبيض إلى ضبط الوضع وتبريد الرؤوس الإسرائيلية الحامية وردع أطراف إقليمية، ولا سيما إيران وحزب الله، عبر رسائل، فهي تريد حصر المواجهة مع المقاومة الفلسطينية في غزة مع حماس تحديداً، وشاركت بشكل فعّال في تشكيل حكومة الطوارئ لتضمّ المجلس الحربي المصغّر الذي يضمّ بدوره النخبة الإسرائيلية.
أراد بايدن التأكيد أن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة اليدين في حال وجود تهديدات تطال حليفتها، وهو يعتبر إطلاق سراح الرهان الذين أسرتهم حماس الأولوية القصوى ومن ثمّ دخول المساعدات الإنسانية لغزة، وتشكيل مرور آمن للأميركيين المحاصرين فيها.
تدرك واشنطن أن مزاج الشارع الغربي قد بدأ بالتغيّر بعد المجازر التي ارتكبتها حليفتها، إلّا أنه عملياً يسعى ووزراءه إلى مقاربة الحرب سياسياً، فهو يعي أنّ "إسرائيل" فقدت التركيز وتريد الانتقام المتواصل لطرد الفلسطينيين، لكن ليس لدى حكّامها أيّ مقاربة سياسية. لذلك تبرز واشنطن كمدير سياسي للحرب على غزة.
أما "إسرائيل" فتتولّى إدارة الحرب العسكرية بمساعدة الأميركيين. واشنطن لا تريد توسيع دائرة الحرب، ولا تريد من "إسرائيل" احتلال قطاع غزة، إدارة بايدن منخرطة بالفعل بعمق في مثل هذه الجهود. التدخّل الأميركيّ في الحرب وفي إدارتها له أثمان على "إسرائيل"، كاحترام القانون الدولي وحماية المدنيين وإعادة النظر بحجب الكهرباء والماء.
تعود "إسرائيل" إلى الحاجة الاستراتيجية للحماية الأميركية، فهذه العملية أشعرتها بالضعف، وأشعرت الأميركي بأن مشروعه تعثّر، وأن شفاء "إسرائيل" من هذه الضربة المميتة سيأخذ وقتاً. في هذه الأثناء تتضافر جهود الصين وروسيا في تثبيت مشروع الحزام والطريق، ويلتقي الرئيسان في بكين ويعقدان جولة محادثات يشدّدان فيها على الأواصر المتينة للعلاقة، وعلى المضي قدماً في مشاريعهما من أجل التنمية والتعددية القطبية.
بينما تنشط إيران في دبلوماسية الحرب والتلويح بتوسيع إطارها في حال دخول القوات الأميركية والإسرائيلية إلى غزة. تلملم الولايات المتحدة جراح "إسرائيل" وتقودها سياسياً في هذه المرحلة بعد تعرّض مشروع الممر الهندي الأوروبي الشرق أوسطي لنكسة، وبعد ما استنتج العرب أن الغرب و"إسرائيل" يرونهم وحوشاً بشرية، ولا يقيمون وزناً لأيّ قوانين أو اتفاقيات وأعراف. فهل فتحت عملية طوفان الأقصى الباب واسعاً أمام إعادة النظر بالسياسات العربية تجاه "إسرائيل" التي لن توقف عدوانها على الفلسطينيين.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.