تركيا أسقطت الأسد .. فهل تحمي الشرع إلى الأبد؟
بعد العديد من التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية هاكان فيدان وأكد نظيره السوري أسعد الشيباني صحة فحواها، والتي تثبت الدور الذي لعبته أنقرة خلال الأيام والأسابيع القليلة التي سبقت إسقاط نظام الأسد في دمشق، فقد بات واضحاً أن تركيا التي أوصلت الجولاني إلى السلطة سوف تحميه إلى الأبد لضمان كل مصالحها التي حددتها منذ اليوم الأول لتدخلها في سوريا مع بدايات "الربيع العربي".
وتحدث الرئيس لإردوغان وإعلامه الموالي والعديد من المسؤولين الأتراك طيلة السنوات الماضية عن الحق التاريخي لتركيا في سوريا وشمالها بالذات ضمن ما يسمى بخارطة الميثاق الوطني لعام 1920، التي ترى في الشمال السوري والعراقي جزءاً من الجغرافيا التركية بحدودها الحالية.
وقد يكون ذلك السبب الرئيسي الذي دفع أنقرة إلى تقديم كافة أنواع الدعم للفصائل المسلحة السورية بما فيها "النصرة" التي ساعدتها في بسط سيطرتها على الشريط الحدودي السوري مع تركيا بطول 650-700 كم وعمق يتراوح بين 20-70 كم وهو ما يشمل نحو 10٪ من مساحة سوريا الإجمالية.
ومن دون أن تتذكر وسائل الإعلام العربية والدولية هذه الحقيقة وهي تتحدث بين الحين والحين عن تعزيزات للقوات التركية في الشمال السوري، وهو ما لا يعني أي تطور جديد، خصوصاً أن الجيش التركي موجود في كل مكان من سوريا، كما أن هذا الجيش هو الذي يقوم بتدريب الجيش السوري الجديد وتسليحه.
وتفعل تركيا ذلك أساساً منذ بدايات تشكيل ما يسمّى بـ"الجيش السوري الحر" صيف 2011 ثم ما يسمى بـ"الجيش الوطني السوري" صيف 2019 بعد توحيد كل فصائل المعارضة السورية باستثناء "هيئة تحرير الشام" والمجموعات الموالية لها.
وكانت بدورها تغطي كل احتياجاتها من تركيا ليس فقط من المعدات العسكرية بل الكهرباء والغاز والنفط والاتصالات الهاتفية والخليوية والإنترنت وكل المواد الاستهلاكية، التي كانت تدخل عبر البوابات الحدودية بين تركيا وإدلب وكانت "النصرة" تسيطر عليها.
ومع الحديث بين الحين والحين عن "توتر" بين أنقرة و "تل أبيب" في سوريا، فالمعلومات الصحفية كانت قد تحدثت أكثر من مرة عن تنسيق مباشر أو غير مباشر بين الطرفين خلال الأيام، وربما الأسابيع القليلة التي سبقت سقوط نظام الأسد.
حيث تحدثت هذه المعلومات عن زيارة سرية قام بها وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي دريمر وبوساطة أميركية إلى تركيا لبحث تفاصيل "التنسيق المشترك" خلال عملية إسقاط النظام في دمشق، وهو ما تحدث عنه الوزير فيدان أكثر من مرة بالتفصيل.
حيث قال إنهم "كانوا على اتصال مع موسكو وطهران لإقناعهما (أو إجبارهما) بضرورة التخلي عن دعم الأسد، ولمنع أي توتر إقليمي خطير" وعلى حد قول الوزير فيدان الذي "افتخر" بمهارته في إقناع العاصمتين.
وربما لهذا السبب قال الرئيس ترامب بعد أيام من إسقاط النظام إن الرئيس إردوغان ذكي، وأرسل رجاله وسيطر على سوريا التي يحلم بها الأتراك منذ ألفي عام"، وليضيف لاحقاً أنه "وبناء على طلب إردوغان ونتنياهو معاً قرر إلغاء العقوبات المفروضة على سوريا والشرع"، والتقاه ترامب في الرياض 14 مايو/أيار الماضي "بناء على توصية إردوغان ومحمد بن سلمان"، والقول لترامب أيضاً.
هذا الانتصار اعتز به إردوغان أكثر من مرة خلال الأشهر الماضية التي استغلتها أنقرة لترسيخ وجودهاالعسكري والاستخباري والاقتصادي والتجاري والديني (الطائفي ) والقومي، بل وحتى الاجتماعي والثقافي في سوريا.
وهو ما بنت عليه تركيا خلال السنوات الماضية عندما استضافت على أراضيها أكثر من أربعة مليون سوري وقدمت لهم كافة الخدمات المجانية حيث نجحت في تتريك المنطقة التي تسيطر عليها في الشمال السوري، وأصبحت الليرة التركية فيها العملة التي يتعامل بها السوريون الذين تعلموا اللغة التركية نتيجة تعاملاتهم اليومية مع الأتراك، والأهم من ذلك عبر المسلسلات التركية التي غزت الشاشات العربية أيضاً.
في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن معظم إن لم نقل جميع الذين يحكمون دمشق الآن من العسكر والمدنيين والاستخباريين كان وما زال لهم علاقة مع مختلف الأطراف التركية ومنذ الأيام الأولى لتمردهم ضد نظام الأسد وحتى إسقاطه.
وتعقد أنقرة آمالاً كبيرة على هذه العلاقات التي تتمنى لها أن تساعدها على ترسيخ دورها في سوريا، وعلى ضمان مصالحها الحالية والمستقبلية فيها، وفي المنطقة عموماً.
ويتطلب ذلك حماية "أصدقائها" وضمان بقائهم في السلطة من دون أن تبالي بالأحاديث الإعلامية والاستخبارية عن علاقة هؤلاء وآخرين منهم مع واشنطن ولندن وبرلين وباريس والرياض وأبو ظبي والدوحة وغيرها.
وتعتقد أنقرة بل وتؤمن أن أصدقاءها في دمشق لا ولن يتخلوا عنها بسبب علاقاتهم ومصالحهم المتشابكة معها ما دامت أكثر حظاً من الآخرين أولاً بسبب الحدود المشتركة (911 كم)، وثانياً بغياب السياسات العربية المشتركة تجاه سوريا التي تعرف تركيا أن من سيقرر مصيرها هو الرئيس ترامب.
وقال أكثر من مرة إنه صديق حميم للرئيس إردوغان، كما إنه صديق نتنياهو وحليفه الهنغاري أوربان الذي يتردد على تركيا باستمرار، كانت آخر مرة في 8 ديسمبر ولأنه صديق الرئيس إردوغان حاله حال إلهام عالييف حليف نتنياهو.
وفي جميع الحالات، وبغياب الدور الروسي الفعّال في سوريا، وحتى بعد زيارة الشرع إلى موسكو التي لا تخفي قلقها من احتمالات إغلاق قواعدها هناك، وعلى الرغم من صفقتها مع أنقرة والجولاني عشية إسقاط الأسد.
فالجميع يعرف جيداً أن ما يهم أنقرة الآن هو حسم ملف الكرد شرق الفرات باعتبار أنهم امتداد لـ"حزب العمال الكردستاني". وبدأت أنقرة مساعيها للمصالحة مع زعيمه عبد الله أوجلان في 22 أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي أي قبل 45 يوماً من سقوط نظام الأسد، ولأنها كانت على علم مسبق بهذا السقوط الذي تحقق بفضل التنسيق التركي الأميركي- الإسرائيلي الذي كان كافياً لمنع موسكو وطهران من أي تدخل مباشر لإفشال هذا المخطط.
وسيكشف التاريخ الكثير من أسراره خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة بما في ذلك الثمن الذي حصلت عليه موسكو بعد إعطائها الضوء الأخضر للإطاحة بحليفها الاستراتيجي بشار الأسد، وعلى الرغم من تجربتها السيئة مع الغرب الذي أسقط حليفها الآخر العقيد القذافي وقبله صدام حسين.
ومهما كانت خفايا وأسرار المرحلة التي سبقت السقوط، فقد أثبتت كل المعطيات اللاحقة أن الأسد وفريق عمله لم يكن على مستوى التحديات التي عاشتها بلاده خلال ما يسمّى بـ"الربيع العربي"، وأثبتت مجمل تطوراته جهل حكام دمشق الذين لم يدركوا حجم المؤامرات التي تستهدف سوريا وعبرها المنطقة عموماً.
فخدعوا أنفسهم بعلم أو من دونه كما هم خدعوا حلفاءهم فدفعوا معاً الثمن غالياً جداً لأن العدو، وأياً كان اسمه وصفاته، كان ذكياً جداً ليس فقط في مخططاته ومشاريعه التي استعد لها منذ زمن، بل أيضاً في إمكانياته لشراء ذمم وضمائر الكثيرين في سوريا وغيرها من دون أن يتعلم كل من فيها أي شيء من دروس التاريخ القريب منه والبعيد.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً