"الربيع العربي".. إردوغان بطل كلّ الأدوار!
قبل 10 سنوات، وتحديداً في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه أمام مقر الولاية في تونس، احتجاجاً على تصرفات شرطية صفعته وصادرت عربته التي كان يبيع عليها الفواكه والخضار. كان هذا الحادث بدايةً لما أسماه البعض بـ"الربيع العربي"، والذي أثبتت السنوات اللاحقة أنَّه كان بمثابة الحلقة الثانية لمشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي تم الإعلان عنه في حزيران/يونيو 2004، بعد عام من احتلال العراق و3 أعوام من احتلال أفغانستان.
وكانت زيارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى تركيا في 6 نيسان/أبريل 2009، وبعدها بشهرين إلى مصر، مؤشراً مهماً إلى هذا "الربيع" بكل تطوراته اللاحقة، نظراً إلى ما لهاتين الدولتين من ذكريات تاريخية مشتركة لها علاقة بكل ما عشناه خلال السنوات العشر الماضية، فقد دخل السلطان سليم سوريا بعد معركة "مرج دابق"، لتكون بوابته للتوغل في العالم العربي الذي أعلن نفسه خليفة عليه بعد دخول القاهرة في 4 شباط/فبراير 1517. وكان ذلك بداية الذكريات المشتركة بين الطرفين، ومن أهمّ محطاتها استنجاد السلاطين سليم الثالث ومصطفى الرابع ومحمود الثاني بمحمد علي باشا حاكم مصر، ليقضي على تمرّد آل سعود خلال الأعوام 1790-1820.
وجاءت جمهورية مصطفى كمال أتاتورك العلمانية في العام 1923 لتكون بداية الابتعاد التركي عن محيطه العربي، وخصوصاً بعد أن تعرض لتمردات رجعية دينية، بحجة إلغائه السلطنة، ومن بعدها الخلافة. وكانت الدول الاستعمارية، وفي مقدمتها بريطانيا، خلف كل هذه التمردات.
وبعد 5 سنوات من جمهورية أتاتورك، تأسَّست حركة الإخوان المسلمين بكلّ ما قيل عن ضوء أخضر من بريطانيا التي كانت تستعمر مصر، ليبدأ بعدها الصراع المعروف بين العلمانية والإسلاميين في العالمين العربي والإسلامي، وهو الأساس في ما يسمى بـ"الربيع العربي"، فقد سعت واشنطن والعواصم الغربية إلى تحقيق المصالحة بين الطرفين بتسويق تجربة حزب العدالة والتنمية ذي الأصول الإسلامية في بلد مسلم نظامه ديموقراطي علماني إلى الدول العربية وحركاتها الإسلامية، وهو ما نجحت به العواصم المذكورة، بعد أن استطاعت أنقرة أن تقيم علاقات مميزة مع إيران وجميع الدول العربية، بدعم من واشنطن والدول الأوروبية، التي ساعدت إردوغان وحزبه في هذه المساعي، وخصوصاً بعد أن فتح الرئيس الأسد له أبواب سوريا على مصراعيها ليدخل منها إلى المنطقة العربية، كما دخلها السلطان سليم في العام 1516.
وجاء "الربيع" ليشجّع إردوغان على أداء دوره المطلوب، ألا وهو تبني كلّ الحركات الإسلامية، عبر الاهتمام الكبير الذي أولاه لربيع ساحة التحرير التي زارها بعد سقوط مبارك. كما وقف بكل إمكانياته (بدعم أنظمة الخليج) إلى جانب حكم الإخوان المسلمين والراحل محمد مرسي، الذي كان صديقاً مقرباً جداً منه، حاله حال راشد الغنوشي وعمر البشير وقيادات الإخوان في سوريا والجزائر والأردن والكويت وفلسطين. ويفسر ذلك موقف الرئيس إردوغان سراً وعلناً ضد الرئيس السيسي الذي أطاح بحكم الإخوان، ليشكل ذلك الانتكاسة الأولى لـ"الربيع العربي" الذي اكتسب طابعاً دموياً في سوريا.
وقد دفع ذلك الرئيس إردوغان إلى الاستعجال في وضع وتنفيذ حسابات عقائدية (إخوانية) وقومية واستراتيجية في سوريا، ولاحقاً في ليبيا والعراق، لتعوّضه عن خسارته في مصر، وهو ما ساعده في تحقيق المزيد من المكاسب والانتصارات اللاحقة في العديد من مناطق العالم، حيث هو موجود الآن فيها، فقبل ما يسمى بـ"الربيع العربي" لم يكن إردوغان يملك أياً من الأوراق الفعالة في مساوماته مع الآخرين، باستثناء علاقاته الجيدة مع بعض البلدان، وفي مقدمتها دول الجوار، بما فيها الكيان الإسرائيلي، ولكنه الآن، وبعد أن أصبح، وما زال، بطل جميع الأدوار خلال السنوات العشر الماضية، لن يكون سهلاً على أحد إيجاد حل لمشاكل المنطقة إلا بقبوله، وآخر مثال على ذلك الحرب في ناغورنو كاراباخ. هذه الحرب جعلت تركيا عنصراً أساسياً، ليس هناك فحسب، بل في منطقة القوقاز عموماً، على الرغم من القلق الروسي، والإيراني جنوباً، من هذا التواجد التركي العسكري والتفوّق القومي والمعنوي.
وباعتراف الجميع، أصبح إردوغان، وما زال، صاحب القول الأهم في ما يتعلَّق بمجمل السيناريوهات الآنية والمستقبلية في ليبيا وسوريا والعراق والخليج والبلقان وأوكرانيا، بل وحتى شرق الأبيض المتوسط، فقد تحدّى العواصم الغربية بإرسال سفن البحث والتنقيب عن الغاز إلى المنطقة، ترافقها سفن حربية، ولم تقترب منها أي سفينة من سفن "الدول الكبرى" التي اكتفت ببيانات التنديد والاستنكار وقليل من العقوبات، وكأنَّ الجميع يمثّل.
وقد اعتبر البعض هذه المواقف الغربية بمثابة الرضا الأميركي والأوروبي على سياسات إردوغان، وربما لحسابات أخرى لا فرق بينها وبين الحسابات الروسية، فقد ساهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بضوئه الأخضر لإردوغان في سوريا في تحقيق كل انتصاراته اللاحقة، ليس فقط في سوريا وجارتها العراق ولبنان ومنطقة الخليج فحسب، بل حتى في حدودها الجنوبية والغربية، أي أوكرانيا والقوقاز، ومستقبلاً في حديقتها الخلفية جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ذات الأصل التركي.
ويرى البعض من المحلّلين الروس في سياسة موسكو هذه جهل من القيادة الروسية بالعقلية التركية بجذورها التاريخية، ليس فقط في ما يتعلق بتاريخ الإمبراطورية العثمانية التي حاربت الإمبراطورية الروسية لما لا يقل عن 500 عام فحسب، بل أيضاً بفشل سياسات الاتحاد السوفياتي الذي قدم كل أنواع الدعم العسكري والمالي لمصطفى كمال أتاتورك خلال حرب الاستقلال، إلا أن تركيا عادت الشيوعية دائماً، كما تحولت بعد الحرب العالمية الثانية إلى رأس حربة للحلف الأطلسي ولأميركا التي كان لها في تركيا أكثر من 150 قاعدة، وبقي منها الآن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي 12 قاعدة فقط، وفيها 50 قنبلة نووية.
أما عربياً وإسلامياً، فقد نجح إردوغان في استغلال كل التناقضات الدينية والمذهبية والعرقية في المنطقة، وأعلن نفسه حامي حمى الإخوان في كل مكان، بعد أن سحب البساط من تحت أقدام آل سعود، ولم يعد لديهم أي مخرج سوى الاستسلام للصهاينة أو العودة إلى المصالحة مع قطر بالتواجد العسكري التركي فيها، بعد أن خدموا الغرب الإمبريالي الاستعماري الصهيوني من خلال دعم كل حركات الإسلام السياسي، العمالي منه والراديكالي، فتبنوا "القاعدة" و"طالبان" في أفغانستان وباكستان، ومنها إلى الجزائر والسودان والصومال، وبعدها "داعش" و"النصرة" وأمثالهما في سوريا والعراق، ومنها إلى ليبيا وتونس ومصر وليبيا وباقي دول المنطقة.
والسؤال هنا: من سيستطيع إعادة التوازنات إلى وضعها الطبيعي السابق قبل 10 سنوات، عندما كان إردوغان صديق الجميع، وهم الآن يعادونه من دون اتفاق، ولكل أسبابه المتناقضة؟ وكيف سيحصل ذلك، في وقت لا يفكر أحد أو لا يستطيع أن يواجه إردوغان على انفراد (السيسي أو آل سعود مثلاً) أو عبر التحالفات الإقليمية والدولية التي باتت تحسب أكثر من حساب للتخلّص منه، ولذلك أسباب عديدة، أهمها الموقع الجغرافي الاستراتيجي لتركيا والمصالح الغربية العظيمة فيها، يضاف إلى ذلك نجاح إردوغان في استقطاب مئات الآلاف من الإسلاميين، المدنيون منهم والمسلحون، في المنطقة والعالم أجمع، والفضل في كل ذلك لـ"الربيع العربي" الذي أخرجه الغرب وأدى الكثيرون فيه أدوارهم المتواضعة، وكان لإردوغان دائماً دور البطولة في هذه المسرحية، ويبدو أن فصولها لم تنتهِ بعد، ما دام يرى في نفسه السلطان سليم الثاني، وإلا لما كان كل هذا الاهتمام بسوريا!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً