سدّ النهضة بداية وليس نهاية.. مصر في خطر وجوديّ
كانت مصر الهدف الرئيسي لما يُسمى بـ"الربيع العربي" بكل تفاصيله وتطوراته اللاحقة المستمرة، وستبقى كذلك إلى أن تعي القاهرة هذه الحقيقة وتواجهها بجديَّة.
ورغم أنّ كامب ديفيد هي بداية التآمر الأكبر على مصر، ومعها الأمة العربيَّة، فإن تجربة إيصال الإسلاميين إلى السلطة هي المرحلة التالية من هذا التآمر الذي ساهمت فيه أنظمة الخليج بعلم أو من دون علم، وربما لغبائها أو لكونها جزءاً من هذه المؤامرة، التي يبدو أنَّ ساسة مصر ومثقّفيها لم يعوا مخاطرها، على الأقل حتى الآن، وإلا لما وجدوا أنفسهم الآن في وضع صعب وخطير يهدد مستقبل مصر بالكامل بسبب أزمة سد النهضة مع أثيوبيا.
لقد بدأت هذه المخاطر أولاً بالضغط على الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير وإجباره على القبول بتقسيم السودان، حيث أصبح الجنوب مرتعاً لنشاط إسرائيلي خطير يستهدف مصر قبل السودان، وتحوَّل هذا البلد العربي الجار بعد لقاء نتنياهو مع حاكم السودان العسكري عبدالفتاح البرهان في 4 شباط/فبراير الماضي في مدينة عنتيبي في أوغندا، والتي قتل فيها شقيق نتنياهو خلال عملية إنقاذ الرهائن في 4 تموز/يوليو 1976، إلى ساحة جديدة لتضييق الحصار على مصر.
ولم يتذكّر أحد أنّ الإمارات هي التي رتّبت هذا اللقاء، وهي الّتي دعمت، ومعها السعودية، وفي البداية مصر، الانقلاب الذي أطاح بالبشير بعد أسابيع قليلة من زيارته إلى دمشق، كما لم يتذكّر أو لم ينتبه أحد – والمصريون أنفسهم أيضاً - إلى النشاط الإسرائيلي المكثّف في دول منابع النيل، استعداداً للضربة القاضية على مصر، الّتي ستتلقّى اللكمة الأولى من أثيوبيا، وهي أيضاً حليف استراتيجي لتل أبيب، وكأنَّ التاريخ يكرّر نفسه عندما قال بن غوريون في بدايات الخمسينيات: "إنَّ إسرائيل بحاجة إلى أكثر من رئة للأكسجين تساعدها على التنفّس وسط الخناق العربي، وهذه الرئات غير العربية هي الحبشة وإيران وتركيا".
وقد دفع هذا الأمر تل أبيب آنذاك، وبدعم من أميركا، إلى إقامة علاقات متطورة مع أنقرة في عهد عدنان مندرس (1950 - 1960)، وأديس أبابا في عهد هيلاسيلاسي (1950 - 1974)، وطهران في عهد الشاه (1952 - 1979). وكانت هذه الفترة كافية للكيان الصهيوني لترسيخ وجوده في فلسطين أولاً، وبالتالي الحصول على السلاح النووي من فرنسا، وشنّ عدوانه على مصر في العام 1956، ثم على سوريا والأردن أيضاً في حزيران/يونيو 1967.
ولم تهمل تل أبيب طيلة الفترة الماضية، وما زالت، حساباتها في مياه النيل التي كانت منذ البداية مادة أساسية في كل المباحثات والمفاوضات المصرية- الإسرائيلية أو المصرية-الأميركية، التي سعت دائماً إلى منح تل أبيب حصة "تاريخية" في مياه هذا النهر المقدس.
ويبدو واضحاً الآن أنّ "إسرائيل" على وشك أن تحقّق بعض هذه الأهداف بشكل غير مباشر عبر أثيوبيا (النيل الأزرق)، ولاحقاً عبر دول منبع النيل الأبيض، ولجميعها علاقات مميزة، وفي جميع المجالات، مع "إسرائيل"، التي توغلت فيها عندما كانت الأنظمة العربية تتآمر على بعضها البعض، كما هو الحال الآن في سوريا والعراق وليبيا والصومال وقطر.
ولن يهمل حكام تل أبيب ذو الفكر الصهيوني - بعبارة أوضح لن ينسوا - ما تحدثت عنه التوراة والأساطير اليهودية عن النيل ومصر التي يحلم اليهود بالعودة إليها أو الانتقام منها، من خلال السيطرة على مياه النيل، أهم أدوات هذا الانتقام، فيما يبدو واضحاً أن ساسة مصر ومثقفيها لم يدركوا أبعاد هذا الخطر، وهم يتعاملون مع ملف سد النهضة بشكل سطحي، إن لم نقل بجهل، عسى أن لا يكون مقصوداً، فالاعتماد على مجلس الأمن الدولي أو احتمالات أن تضغط العواصم الغربية على أديس أبابا والاحتكام إلى محكمة العدل الدولية، ليس إلا غباءً دبلوماسياً، وإن ساعد مصر لتحقيق بعض أهدافها البسيطة.
وستكون أثيوبيا في جميع الحالات قد حقّقت كل أهدافها على طريق السيطرة على مياه النيل الأزرق بالكامل، واستخدام هذه المياه كسلاح يخدم المصالح الإسرائيليّة والصهيونيّة استراتيجياً وتاريخياً ودينياً، من دون أن ننسى قوة المنظمات واللوبيات اليهودية ومدى تأثيرها في الدول الأعضاء في مجلس الأمن، بما في ذلك روسيا، وكذلك المحكمة الدولية التي لن تتّخذ أي قرار إلا بعد خراب البصرة، كما يقال!
وقد آن الأوان للقاهرة وحكّامها أن يفكروا في أساليب جديدة واستراتيجية، وليس تكتيكية أو تلفيقية (كما كان يقول القذافي)، لمواجهة التحديات الخطيرة التي ستزيل، ومن دون أي مبالغة، مصر من الخارطة، إذا استمر هؤلاء في أخطائهم التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه، وذلك بسبب اعتمادهم على أنظمة الخليج التي دعمت مبارك، وأوصلت مرسي إلى السلطة، وصفّقت لانقلاب السيسي، ما دام كل ذلك يخدم المشاريع الصهيونية، وآخرها "صفقة القرن".
والآن، يبدو واضحاً أنه لم يعد أمام القاهرة أي خيار يساعدها على مواجهة كل التحديات من الجنوب والغرب، ولاحقاً الشرق، أي "إسرائيل"، التي لن يرتاح لها بال إلا بالاستسلام المصري الرسمي والشعبي بأكمله للإرادة الصهيونية.
ويعرف الجميع أنّ هدف هذه الإرادة هو الانتقام من فراعنة مصر وأحفادهم، لتكون المطالبة بالتعويضات عن ممتلكاتهم في مصر قبل 5 آلاف عام هي الخطوة التالية في المشروع الصهيوني الديني الجهنمي. ويهدف هذا المشروع الآن إلى المطالبة بالتعويضات من الدول العربية التي غادرها اليهود بعد قيام الدولة العبرية في فلسطين في العام 1948.
والسؤال: ماذا سيفعل السيسي وطاقمه السياسي والدبلوماسي والإعلامي والعسكري؟ هل سيستمرون في أساليبهم الحالية، أي لهجة التهديد والوعيد، وهي لن تنفع، أو أنهم سيفكّرون في أسلوب جديد يغيّر موازين القوى بأكملها في المنطقة، فإما أن يستمروا في منع حاملات النفط الإيرانية، وهي في طريقها إلى سوريا، وإما أن يستمروا بعمليات التخدير، من دون أي عملية جراحية، لاستئصال الورم الخبيث، وهو على وشك أن يتفشى في جميع أنحاء الجسد المصري والعربي ليقضي عليه بالكامل!
هذا هو التحدي الأكبر والأصعب، بسبب ظروف مصر المعروفة التي تجعل اتخاذ القرار صعباً جداً، ولكنه بات ضرورياً وملحاً لإنقاذ مصر وشعبها الأصيل عربياً وقومياً وإسلامياً بكلّ تاريخه العريق الذي يمتدّ إلى ما لا يقل عن 10 آلاف سنة قبل موسى وبعده. وعلى هذا الشّعب ومن يحكمه أن يثبتوا للجميع أنهم يستطيعون مواجهة كل التحديات، كما فعل الزعيم التاريخي عبد الناصر، عندما بنى السدّ العالي، وأقام الوحدة مع سوريا، وأصبح صديقاً للعقيد القذافي، ودعم الثورة اليمنية.
وها هي أثيوبيا ومن معها، بشكل مباشر أو غير مباشر، تسعى إلى الانتقام من هذا السدّ، الذي يعدّ السبب في كل المؤامرات التي تستهدف مصر ووجودها كبلد عربي وإسلامي، منذ أن جاءها عمر بن العاص قبل 1380 عاماً والنيل يجري في أراضيها. وليس فقط منذ ذلك التاريخ، بل منذ أن خلق الله تعالى الإنسان على أرضه.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً