هل أفلس النموذج التركي؟
بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2002 حيث سيطر على ثلثي مقاعد البرلمان بحصوله على 36٪ من أصوات الناخبين، بدأت العديد من الأوساط الغربية تتحدث عن "التجربة الديمقراطية في بلد مسلم بنظامه العلماني".
واكتسب هذا الحديث أهمية إضافية بعد قمة مشروع الشرق الأوسط الكبير في مدينة سي آيلاند في أميركا (حزيران/يونيو 2004)، وسبق ذلك انفتاح تركيا على الدول العربية عبر البوابة السورية بعد أن دخلت أنقرة في حوار وتعاون استراتيجي مع دمشق.
ومع حديث مستشار رجب طيب إردوغان للسياسة الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو عن "تصفير المشاكل مع الجيران"، زاد إهتمام الغرب بتجربة العدالة والتنمية وسعى إلى تسويقها لدول المنطقة. ويفسر ذلك الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى تركيا في 6 نيسان/أبريل 2009 ثم إلى القاهرة في 4 حزيران/يونيو من العام نفسه.
كان ذلك في إطار التحضير لما سُمي بـ"الربيع العربي" الذي انطلق من تونس نهاية 2010 وخلق للمنطقة ما يكفيها من المشاكل، وأصبحت تركيا العنصر الأساسي في مجمل تطوراتها وما زالت كذلك.
هذا الأمر كان كافياً بالنسبة إلى العواصم الغربية حتى تنسى أو تتناسى ما سوقت له عن "النموذج التركي المثالي لتجربة حزب العدالة والتنمية ذي الأصول الإسلامية في دولة ديمقراطية علمانية 99 في المئة من سكانها مسلمون".
فقد نجح إردوغان، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة (تموز/يوليو 2016) التي قام بها أتباع حليفه الاستراتيجي السابق فتح الله غولان، في السيطرة على معظم مؤسسات الدولة العلمانية وخاصة الجيش، كما نسف جميع أسس ومبادئ الديمقراطية والحريات السياسية والفردية وحقوق الإنسان، باعتراف جميع مؤسسات وأجهزة الاتحاد الأوروبي، بل وحتى جو بايدن، الذي قال بداية العام الماضي "إن نظام إردوغان استبدادي ولا بد من التخلص منه ديمقراطياً من خلال دعم المعارضة".
لم تمنع كل هذه المعطيات أتباع وأنصار إردوغان في المنطقة من الاستمرار في تمسكهم بهذا النموذج "الإسلامي الديمقراطي" طالما أنهم سعداء بالتخلص من النظام العلماني "المعادي للإسلام والمسلمين"، وهم الذي قالوا عن مصطفى كمال أتاتورك بأنه "كافر" لأنه ألغى الخلافة والسلطنة العثمانية بعد قيام الجمهورية التركية عام 1923 قبل خمس سنوات من تشكيل حركة الإخوان المسلمين في مصر.
كما لم تمنع تطورات السنوات العشرة الماضية على الصعيدين الداخلي والخارج أتباع وأنصار إردوغان من الاستمرار في الدعاية له باعتباره بطل المعجزات في التنمية الاقصادية والاجتماعية، ولكن من دون أن يتقدم أحد منهم بأي أرقام أو معلومات تثبت صحة هذه المعجزات، والأهم تكاليفها الباهظة على تركيا دولة وشعباً.
فبعد الدعم الذي أعلنته العواصم الغربية لتجربة العدالة والتنمية، في سبيل تسويقها لاحقاً للمنطقة العربية، نجحت تركيا (بعد 2004) في جذب ما لا يقل عن 200 مليار دولار من الاستثمارات الخارجية التي ساهمت في تحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد التركي وانعكست على مجموعة من المجالات في القطاعين العام والخاص. ووصل حجم الاستثمارات الخارجية خلال سنوات إلى ما لا يقل عن 60٪ في بورصة اسطنبول والقطاع المصرفي. كما زاد عدد الشركات الأوروبية والغربية عموما إلى نحو 20 ألف شركة تستثمر في تركيا حيث حققت لأصحابها مليارات الدولارات من الأرباح التي بدأت تتراجع مع التدخل التركيا المباشر في سوريا صيف 2016 وبعد ذلك فوراً في ليبيا.
ولم ينتبه أولئك الذين يتحدثون عن "معجزة التنمية" في تركيا إلى معطيات الواقع الاقتصادي الداخلي الذي يعاني "أخطر أزماته المالية والاقتصادية"، والكلام لزعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو، وذلك بعد أن خسر المصرف المركزي حوالى 120 مليار دولار من احتياطي العملات الصعبة بسبب السياسات المالية الفاشلة التي تتحدث المعارضة باستمرار عن تفاصيلها. فقد وصلت الديون الخارجية إلى 436 مليار دولار نهاية العام الماضي، وهو ما يعادل نحو 60% من الدخل القومي الذي يشهد تراجعاً خطيراً بسبب حجم البطالة التي وصلت بدورها إلى 16% مع فقر مدقع، بعد أن أفلست الآلاف من الشركات، فيما لم تنفذ الدولة خلال السنوات الماضية أي مشروع صناعي، ورجحت على ذلك الاستعجال في سياسات الخصخصة التي بدأتها فور استلامها للسلطة نهاية 2002 حيث قامت ببيع أكثر من 270 من مؤسسات ومرافق الدولة بما فيها الموانئ والمصانع الاستراتيجية والسدود بقيمة 65 مليار دولار.
واتهمت أحزاب المعارضة الرئيس إردوغان بالتصرف بهذه الأموال بغياب أي رقابة في البرلمان، في الوقت يتحدث فيه زعماء المعارضة ومنهم رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب المستقبل أحمد داود أوغلو ووزير الاقتصاد السابق وزعيم حزب الديمقراطية والتقدم علي باباجان، عن قضايا فساد خطيرة تورط فيها إردوغان وعائلته والمقربين منه، وهي قضايا تنسحب أيضاً على البلديات التي كان يحكمها العدالة والتنمية قبل انتخابات آذار/مارس 2019 ومنها اسطنبول، وحجم الفساد فيها كبير جداً منذ أن حكمها الإسلاميون عام 1994.
ومع أن تكاليف النجاحات التي حققتها تركيا على الصعيد الاقتصادي، بفضل الاستثمارات الأجنبية وسياسات الخصخصة، كانت مكلفة جداً وأثقلت كاهل الدولة التركية، فقد تجاهل أتباع الرئيس إردوغان هذه الحقائق وأرقامها، واستمروا في الدعاية لطرقات ومطارات وجسور وأنفاق وحدائق تركيا، وهم لا يعرفون حقيقتها التي تتحدث عنها المعارضة باستمرار، وهي خطيرة جداً.
فلا يمر يوم إلا وتكشف أحزاب المعارضة عن أرقام خطيرة في ما يتعلق بهذه "المعجزات" التي يفتخر ويتغنى بها إردوغان، ويحرص على افتتاحها دائماً وسط ضجة إعلامية كبيرة. فعلى سبيل المثال النفق الذي يربط بين الطرفين الآسيوي والأوروبي لمدينة اسطنبول، والجسور المعلقة في المدينة، والطريق السريع بين اسطنبول وأزمير، والجسر المعلق على مضيق الدردنيل، قامت شركات أجنبية بتنفيذها بالتعاون مع شركات يملكها رجال أعمال مقربون من إردوغان وفق نظام "البناء والاستثمار ثم الإعادة B.O.T".
وعلى الرغم من مطالبات المعارضة المتكررة في البرلمان أو عبر الإعلام بالكشف عن تفاصيل العقود الموقعة مع الشركات المذكورة فالموضوع مازال من أسرار الدولة التي لا يعرف أحد عنها أي شيء، باستثناء التكاليف الباهظة لهذه المشاريع التي كلفت الدولة عشرات المليارات من الدولارات.
أما المفاجأة الأخطر وفق كلام المعارضة هو أن الدولة تعهدت للشركات المذكورة أن تمر أعداد معينة من العربات عبر هذه الطرقات والجسور والأنفاق مقابل أسعار خيالية.
فعلى سبيل المثال تعهدت الدولة للشركة التي نفذت جسر عثمان غازي المعلق قرب اسطنبول بمرور 40 ألف عربة في اليوم (٢٠ دولار عن كل سيارة). وإذا لم يصل العدد إلى الرقم المذكور تقوم الدولة بتسديد الفارق للشركة بالدولار، الأمر الذي يكلف الخزانة ملايين الدولارات يومياً. وهذا هو حال "معجزات التنمية" الأخرى التي يسوق لها أتباع وأنصار إردوغان في الخارج.
كما تقوم الدولة بتعويض الشركات التي بنت 12 مجمعاً صحياً كبيراً في العديد من المدن ومنها اسطنبول إذا لم يصل عدد المرضى المذكورين في العقود الموقعة، وهو ما دفع المعارضة إلى مهاجمة الرئيس إردوغان بشدة عندما اعتبر المرضى "زبائن" يترددون على المستشفيات المذكورة ولا يدري أحد كم كلف بناؤها. كما لا يدري أحد خفايا وأسرار كل السياسات المالية والاقتصادية التي يقررها إردوغان لوحده من دون أي رقابة أو حساب طالما أنه يسيطر على جميع مؤسسات وأجهزة الدولة.
هذا بالإضافة إلى الإعلام الخاص والحكومي و95% منه موالي لإردوغان ويمنع وصول الحقيقة للرأي العام الذي لا يريد له إردوغان أن يعرف هذه الحقائق الخطيرة التي يبدو أنها وصلت إلى الشعب التركي عبر شبكات وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام المعارضة على قلتها. ويفسر ذلك تراجع شعبية إردوغان باستمرار وفق العديد من استطلاعات الرأي المستقلة التي تتوقع له هزيمة أكيدة في أول انتخابات رئاسية وبرلمانية مقبلة.
وهو التوقع الذي إن تحقق فإن "النموذج التركي المثالي" أو ما يسمى بـ"تجربة العدالة والتنمية المثالية" ستسقط ليس فقط بـ "معجزاتها التنموية" بل بـ"ديمقراطيتها" التي قضى عليها الرئيس إردوغان كما قضى عبر مخططاته ومشاريعه العسكرية والاستراتيجية على كل ما نجح في تحقيقه قبل ما يسمى بالربيع العربي.
وكل ذلك من أجل ذكريات أراد لها أن تعود به إلى سنوات الحكم العثماني بنكهة قومية دينية تساعده لأن يكون زعيماً لكل الإسلاميين في العالم، وهو ما نجح به حتى الآن، وإلا لما استمر أنصاره في الحديث ليس فقط عن "معجزاته التنموية"، بل أيضاً عن "انتصاراته العقائدية"، التي يبدو واضحاً أنها وصلت إلى طريق مسدود بعد أن كلفت تركيا ومازالت أكثر مما يتوقعه الكثيرون وستستمر الأجيال القادمة بدفع تكاليفها!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً