إردوغان و السفراء العشرة.. لا غالب و لا مغلوب!
العبارة الشعبية، التي تردّدها الأوساط القومية دائماً، تقول "ليس للتركي صديقٌ إلاّ التركي"، ويبدو أنها ترجمة واقعية لموقف الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي لا يمرّ يوم إلاّ ويتوعّد فيه دولة أو أكثر، من دون أن يفرّق بين العدوّ والحليف.
إردوغان، الذي يهدّد أميركا وروسيا والدول الغربية، وأخيرا إيران، بحجج متعددة يستغلّها من أجل شحن المشاعر الدينية والقومية والمذهبية لدى أتباعه وأنصاره، لم يفوّت أزمة السفراء العشرة، فاستغلّها وفق مزاجه. فبعد أن أمر باستدعائهم إلى الخارجية لتوبيخهم، بسبب بيانهم المشترك الذي "دعا أنقرة إلى التزام قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بشأن إخلاء سبيل رجل الأعمال عثمان كافالا"، فاجأ الجميع في خطابه (الجمعة) في مدينة أسكي شهير، عندما قال إنه طلب من "الوزير جاويش أوغلو اتخاذَ الإجراءات العاجلة لطرد السفراء العشرة"، الذين يمثّلون كلاً من كندا وفرنسا وفنلندا والدنمارك وألمانيا وهولندا ونيوزيلندا والنرويج والسويد والولايات المتحدة.
إردوغان، الذي اتَّهم السفراء العشرة بـ"التدخُّل في الشؤون الداخلية لبلاده"، وصف نهجهم هذا بـ"اللاأخلاقي"، مشيراً إلى أن "تركيا اليوم لم تعد تركيا الأمس، وأنها لن تسمح لأحد بأن يعاملها بهذا الاسلوب". الرئيس التركي السابق عبدالله غول، ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، ووزير الخارجية الأسبق (في حكومة العدالة والتنمية) يشار ياكيش، استنكروا موقف إردوغان، وعبّروا عن قلقهم من "سلوكه الشخصي الطائش''، وقالوا إنه سيخلق لتركيا كثيراً من المشاكل في علاقاتها الدولية.
المعارضة، بدورها، انتقدت أسلوب إردوغان "الارتجالي"، وقال زعيم حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو "إن إردوغان لا يفكّر في مصالح تركيا، بل إنّه يتصرّف وفق مبرّرات شخصية، ويخلق لتركيا مزيداً من المشاكل في علاقاتها الدولية". ووصفت زعيمة الحزب الجيد، مارال أكشانار، موقف إردوغان بأنه "انعكاس لمرضه النفسي على السياسة الخارجية". أمّا الأميرال المتقاعد توركار أرتورك فقال "إن إردوغان، الذي يتحدّث عن استقلالية القضاء ونزاهته، كان أمر هو شخصياً، في تشرين الأول/أكتوبر 2018، بإخلاء سبيل القس الأميركي برونسون، بعد اتصال تهديدي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما أمر بإخلاء سبيل الصحافي دانيز يوجال بعد اتصال هاتفي مماثل من المستشارة الألمانية ميركل".
إردوغان، الذي استغلّ تغريدة السفارة الأميركية في أنقرة، وجاء فيها "أننا ملتزمون المادة الـ41 من اتفاقية فيينا، التي تحدّد إطار عمل الدبلوماسيين"، قال "إن السفراء تراجعوا عن موقفهم، وعليهم أن يكونوا أكثر حذراً في المستقبل"، وتابع "لم يكن في نيتنا أن نثير أزمة، بل أن نحمي الحقوق السيادية لتركيا".
حديث إردوغان عن "تراجع السفراء" أثار نقاشاً جديداً، على الصعيدين السياسي والإعلامي، وقالت المعارضة "إن إردوغان هو الذي تراجع، لأنه ليس هناك أي إعلان رسمي من عواصم الدول العشر"، في الوقت الذي قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، "إن بيان السفراء العشرة لا يتناقض مع المادة الـ41 من اتفاقية فيينا، وإن بلاده ستستمر في التزاماتها الدولية الخاصة بحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان"، وهو ما أكدت عليه المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي التي قالت "إن واشنطن ستسمر في انتقاداتها للاعتقالات التعسفية".
إردوغان اعتبر تغريدة السفارة الأميركية "انتصاراً لموقفه الرافض تدخُّلَ الدول والقوى الأجنبية في شؤون تركيا"، واستمر في تهديداته هذه الدول، متهماً كل من اعترض على قرار طردَهم بأنه ''أداة في أيدي أعداء الأمة والدولة التركيتين"، ليضاف هؤلاء إلى رجل الأعمال عثمان كافالا، الذي حمّله إردوغان مسؤولية التظاهرات والاعتصامات التي شهدتها إسطنبول وعدد من المدن التركية نهاية أيّار/مايو 2013، ووصفه إردوغان بـ"أنه رأس حربة في مخطّطات الملياردير الأميركي اليهودي جورج سوروس، الذي يسعى لخلق المشاكل لتركيا". بدورها نشرت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، صور إردوغان مع سوروس، وقالت إنهما التقيا، على الأقل ثلاث مرات، قبل أن أصبح إردوغان رئيساً للوزراء في آذار/مارس 2003، وهو ما اعترف به عبداللطيف شنار وبولند أرينج نائبا رئيس الوزراء في حكومات إردوغان السابقة.
عبّر سفيرا تركيا السابقان في واشنطن، فاروق لوغ أوغلو ونامق تان عبرا، عن قلقهما من "أسلوب الرئيس إردوغان في التعامل مع القضايا الخارجية"، وتوقّعا "مزيداً من التوترات في المرحلة المقبلة بين أنقرة ومعظم حلفائها في الغرب".
قلق لوغ أوغلو وتان كان في مكانه، بحيث عقد الرئيس الأميركي جو بايدن (الإثنين) اجتماعاً مغلَقاً مع بطريرك الكنسية الأرثوذكسية في القسطنطينية (إسطنبول) برثالاموس الأول، الموجود في واشنطن من أجل العلاج. كما اجتمع برثالاموس بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي أكد أن "الولايات المتحدة تدافع بقوة عن مبدأ الحرية الدينية".
هذان اللقاءان إضافة إلى كلام بلينكن سيزعج إردوغان، لكنه سيتجاهل ذلك، لأنه لا يريد أزمة جديدة مع الحليف الأكبر واشنطن، مع اقتراب موعد لقائه بايدن خلال قمة العشرين نهاية الشهر الجاري، وسيواجه هناك كلاً من رئيس فرنسا ورئيس وزراء كندا ومستشارة ألمانيا، وهي من الدول التي وقّع سفراؤها بيانَ السفراء العشرة، في وقت تتحدث بعض الأوساط عن احتمال أن يلغي بايدن لقاءه مع إردوغان أو يختصره، الأمر الذي أومأت إليه جين بساكي.
العلاقات التركية - الأميركية التي تشهد فتوراً وتوتراً جديَّين، نتيجة أسباب متعدّدة، أهمها علاقات إردوغان بالرئيس بوتين، واستمرار الدعم الأميركي الكبير لـ"قسد" والكُرد، يبدو أنها ستبقى على هذا النحو، مع نجاح إردوغان في استغلال الفتور والتوتر هذين في سياسات التوازن في علاقاته بين العدوين التقليديين، روسيا وأميركا، وخصوصاً أن أميركا، كما فعل ترامب في رسالته المُهينة إلى إردوغان، في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2019، لَمْ ولا تتّخذ أيَّ مواقف عملية تُحرج إردوغان داخلياً وخارجياً، كما هي الحال بالنسبة إلى العواصم الأوروبية التي لها مصالح اقتصادية كبيرة جداً في تركيا. فالرئيس بايدن، على الرغم من تصريحاته السابقة ضد الرئيس إردوغان، يبدو أنه لا يريد أن يُحرج أنقرة، ما دامت ضمن الحلبة الأميركية، مع استمرار حسابات واشنطن في ما يتعلّق بدور تركيا، حالياً ومستقبلياً، في المنطقة، والأهم من ذلك ضد روسيا حين اللزوم.
ومن دون أن يعني ذلك أن واشنطن والعواصم الغربية ستستمر في تجاهلها "الاستفزازات التركية" إلى الأبد، مع استمرار الأوساط السياسية في الحديث عن عدد من السيناريوهات المتعددة. ويتوقع البعض منها مواقف انتقامية من تركيا في عدة مجالات، في حال استمرار إردوغان في تحديه هذه العواصم، ليجد نفسه في نهاية المطاف في الحضن الروسي. وهذا ما لا ولن يقبله الغرب، الذي كان وما زال يرى تركيا "سمكة في الصنارة الأميركية". ولا بدّ من التساهل معها حتى تبقى على قيد الحياة، مهما فعل إردوغان!
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.