المصالح الروسية مع "إسرائيل" وحسابات بوتين في سوريا
قيل ويقال الآن الكثير عن الدور الروسي في سوريا، ومضمون العلاقة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكل من الرئيسين السوري بشار الأسد والتركي رجب طيب إردوغان، إضافة إلى بنيامين نتنياهو. ومن الصعب جداً التوفيق بين مصالحهم المتناقضة بكلّ أبعادها السياسيّة والاقتصاديّة، ولكن الأهم العسكريّة والأمنيّة والاستراتيجيّة.
وحتى نفهم مبرّرات السياسات الروسية المتناقضة في المنطقة وأسبابها، وخصوصاً العلاقة مع "إسرائيل"، لا بدّ لنا من أن نعود قليلاً إلى صفحات التاريخ، ففيها ما يكفينا من الأحداث التي توضح لنا أسباب التناغم الروسي-الإسرائيلي، رغم تناقضه مع المصالح الروسيّة في سوريا المدعومة من إيران، وكما هو الحال في التنسيق الروسيّ- التركيّ منذ آب/أغسطس 2016.
لقد تواجد اليهود في الأراضي الروسية بحدودها السابقة اعتباراً من القرن الثاني قبل الميلاد، حيث تعرضوا لعمليات نفي وسبي عدة مراتٍ على أيدي حكّام المناطق التي عاشوا فيها، وبشكل خاص منطقة القرم وكييف وأوديسا، ومنها انتشروا إلى أراضي الدولة البيزنطينية، ولاحقاً العثمانية.
ومع الإعلان عن قيام الإمبراطورية الروسية في العام 1721، تعرّض اليهود لاضطهاد كبير، عندما قرّرت الإمبراطورة كاترينا الأولى نفيهم من الأراضي الروسية بسبب سلوكهم السيئ وعدم اندماجهم في المجتمع الروسي.
وفي العام 1791، أمرت كاترينا الثانية "بجمع كل اليهود في منطقة واحدة، وإجبارهم على العيش فيها، من دون السماح لهم بالخروج من هذه المناطق والاختلاط مع الآخرين، حتى لا يفسدوا أخلاق الآخرين".
واستمرّ هذا الوضع مع بعض التحسّن في حياة اليهود حتى العام 1881، عندما تعرضوا لمجازر جماعية وقتل ونهب بسبب دورهم في اغتيال القيصر نيكولا الثاني. وسُميت هذه الحملات باسم "بوغروم" (BOGROM)، وهي شبيهة بكلمة هولوكوست.
ووضع القياصرة لاحقاً العديد من القيود على حياة اليهود وتحركاتهم وأنشطتهم التجارية، ومنعوهم من مزاولة بعض المهن الحسّاسة، إلا بنسب معينة، وخصوصاً في موسكو وبطرسبورغ.
واستمرّ هذا الوضع إلى أن وقعت تمرّدات العمال والكادحين ضد القياصرة، فانضمّ اليهود بكثافة إلى هذه التحركات التي انتهت بثورة لينين في تشرين الأول/أكتوبر 1917، إلى درجة أن اليهود كادوا يسيطرون على قيادة الثورة، فتخلّص منهم لينين بذكاء. ورغم ذلك، استفادوا من روح الثورة، فزاد عددهم بشكل سريع في الدوائر الحكومية والجامعات والجيش، ليصل إلى حوالى 30% تقريباً.
وفي بدايات الثورة، كان وزراء الدفاع والمالية والخارجية من اليهود. حينذاك ازداد نشاط التنظيمات الصهيونية بين اليهود، ما دفع الحكومة الشيوعية إلى منع نشاطها ونشاط كلّ المعابد اليهودية والمراكز الثقافية التي كانت تقوم بتعليم اللغة العبرية للأطفال اليهود.
وقرَّر ستالين الحد من عدد العاملين اليهود في الجامعات والجيش والمناصب الحسّاسة، كما قرّر أن لا تتجاوز نسبتهم 8% من مجموع العاملين، ثم قرر في العام 1928 إنشاء "منطقة حكم ذاتي لليهود بالقرب من الحدود مع الصين"، بعد أن قال عنهم "إنهم لا يملكون مقومات الأمة، لأنهم مجموعات ذات أعراق مختلفة يجمعهم الدين فقط".
واستمرّت مواقف ستالين هذه ضد اليهود حتى اقتراب موعد قيام "دولة إسرائيل"، التي اعتقد ستالين أنها قد تصبح شيوعية بسبب هجرة اليهود الروس إليها بكثافة، وهو ما دفعه إلى تأييد قرار التقسيم والاعتراف بـ"إسرائيل"، التي أرسلت غولدا مائير أول سفيرة لها في موسكو، نظراً إلى أهمية روسيا في حسابات يهود العالم. ومائير ذات أصل أوكراني، غادرت إلى أميركا وعمرها 6 سنوات، حيث درست وعملت فيها وأصبحت مواطنتها.
ولم يساهم ذلك في إقناع يهود روسيا بالسفر إلى "إسرائيل" التي وصلها خلال الفترة الممتدة بين العام 1948 و1967، 16637 يهودياً روسياً فقط، فيما كان العدد في السنوات التي سبقت قيام الدولة العبرية 10 أضعاف هذا الرقم، إذ غادر حوالى مليون يهودي روسيا اعتباراً من العام 1870، ولكن معظمهم سافر إلى أوروبا، ومنها إلى أميركا.
ومع تخفيف قيود الهجرة من روسيا في العام 1968 تحت الضغوط الأوروبية والأميركية، غادر 375 ألف يهودي روسيا إلى "إسرائيل" حتى العام 1978، وانضم إليهم حوالى 850 ألف يهودي آخر غادروا روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ليشكل اليهود الروس حوالى ربع سكان "إسرائيل" حالياً.
وهؤلاء هم سر الموقف الروسي تجاه تل أبيب، فلديهم ثقل كبير جداً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولهم إذاعاتهم ونواديهم وصحفهم وأماكن تجمعاتهم، لأنهم يتكلّمون اللغة الروسية، وما زالوا يحملون الجنسية الروسية، حالهم حال حوالى 500 ألف يهودي يعيشون في روسيا ويتنقلون من وإلى "إسرائيل"، مثل أقربائهم المقيمين في "إسرائيل"، وفيها الكثير من رجال الأعمال الكبار ذوي الأصل الروسي، وهم امتداد لرجال أعمال يهود كبار مؤثرين في روسيا، والبعض منهم من أصول أذربيجانية وأوزبكستانية.
ويبدو واضحاً أن بوتين لا يريد أن يقطع علاقاته معهم جميعاً، إذ شنّ حملته المعروفة ضدهم بعد استلامه السلطة في العام 1999 عندما أرادوا محاصرته، فانقضّ عليهم، وتخلّص من عصاباتهم المالية الخطيرة التي لطالما خلقت المشاكل لروسيا خلال جميع مراحل التاريخ المختلفة، وما زالت كذلك.
وبوتين الآن في مصالحة حساسة وذكية معهم، لأنه لا يريد أن يخسر "إسرائيل" بثقلها ودورها، إضافة إلى دور منظمات اللوبي اليهودي في أميركا والعالم أجمع، في ظل غياب عنصر التوازن العربي، الذي لو كان موجوداً لساعد موسكو في مواجهة هذه المنظمات، كما هو الحال في الموقف الروسي مع تركيا، التي تمتلك موسكو علاقات وحسابات استراتيجية مهمة معها، ولا يمكن التضحية بها من أجل سوريا أو أي بلد عربي على انفراد.
وتفسّر كل المعطيات أعلاه موقف بوتين تجاه "إسرائيل" وعدم التصدي لاعتداءاتها على سوريا، بل وحتى إسقاطها الطائرة الروسية قرب اللاذقية في 18 أيلول/سبتمبر 2018.
ولم يكن هذا الحادث كافياً لإقناع موسكو بضرورة تسليم دمشق صواريخ "أس 300" و"أس 400" لتساعدها على التصدي للطائرات الإسرائيلية التي تصول وتجول في الأجواء السورية، بحجة استهداف مواقع حزب الله وإيران، وهي حليفة لروسيا في سوريا، لتكون المصالح الروسية مع "إسرائيل" وتركيا، هي القاسم المشترك لسياسات بوتين في المنطقة التي دخلها عبر البوابة السورية، ولولاها لما كان لروسيا موطئ قدم في البحر الأبيض المتوسط.
ولولاها أيضاً لما حقّق كل هذه المصالح الاستراتيجية إقليمياً ودولياً في العلاقة المتشابكة مع الرئيس إردوغان. والأخير، حقق معظم أهدافه في سوريا بضوء أخضر روسي، على الأقل حتى الآن، وهو ما كان سبباً للعديد من التساؤلات والانتقادات التي حملت موسكو مسؤولية العديد من سلبيات الواقع السوري، بانعكاساته على الضغوط الدولية التي تستهدف الدور والتواجد الإيراني في سوريا، بحجة أن هذا التواجد يستهدف أمن "إسرائيل" التي لا يريد أحد، بمن فيهم أنظمة الخليج، أن يتذكروا أنها، أي "إسرائيل"، وليست إيران أو حزب الله، تحتل أراضي سوريا التي تآمر عليها الجميع إقليمياً ودولياً، فتصدّت لهم روسيا في جميع المحافل والمجالات!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً