بعد أستانة وسوتشي.. لماذا الدوحة؟
بعد أربع سنوات من مباحثات أستانة التي انطلقت في كانون الثاني/يناير 2017 وبعد مضي ثلاثين شهراً على اتفاق سوتشي في أيلول/سبتمبر وجدت موسكو نفسها مضطرة للبحث عن آلية جديدة تساعدها على معالجة ما فشلت في تحقيقه خلال السنوات الماضية.
خلال جولة وزير الخارجية الروسي الخليجية الأخيرة، والتي شملت أبو ظبي والرياض اللتين أطلقتا تصريحات "إيجابية" حول سوريا، التقى سيرغي لافروف في الدوحة نظيريه القطري محمد عبدالرحمن آل ثاني، والتركي مولود جاويش أوغلو. الوزيران أكدا في مؤتمر صحافي مشترك "على ضرورة الحل السياسي في سوريا"، الأمر الذي سمعناه من كل الأطراف أكثر من مرة خلال السنوات العشر الماضية من تاريخ هذه الأزمة، وكانت قطر وتركيا لاعبان أساسيان فيها. هذا ما اعترف به رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم في 27 تشرين الأول/أكتوبر عام 2017 عندما تحدث إلى التلفزيون القطري قائلاً إن الدوحة "أمسكت بملف الأزمة السورية بتفويض رسمي من السعودية وإن الدعم العسكري الذي قدمته بلاده للجماعات المسلحة كان يذهب إلى تركيا بالتنسيق مع الولايات المتحدة وإن كل شيء أُرسل إلى سوريا كان يتم توزيعه عن طريق القوات الأميركية إضافة إلى الأتراك والسعوديين".
كما كان حمد بن جاسم اللاعب الأساسي في القرار الذي اتخذته الجامعة العربية في 12 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2011 والمتعلق بتعليق عضوية سوريا في الجامعة، وحضر الاجتماع آنذاك وزير الخارجية التركي أحمد دَاوُد أوغلو.
الوزير القطري عبدالرحمن آل ثاني لم ينس الخميس الماضي التذكير بهذا الموضوع حينما قال "إن أسباب تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية ما زالت قائمة"، في إشارة منه إلى استمرار التنسيق والتعاون مع تركيا في سوريا كما كان عليه الأمر منذ البداية. وكان الأمير القطري حمد آل ثاني الزعيم العربي الوحيد الذي شارك في حفل إعلان دمشق عاصمة الثقافة العربية في 19 كانون الثاني/يناير 2008 وجلس إلى جانبه الرئيس التركي آنذاك عبدالله غول، الزعيم الأوروبي الوحيد الذي حضر الحفل متجاهلاً تهديدات الرئيس الأميركي السابق جورج بوش.
بعد استلام حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا نهاية 2002، انتهجت تركيا وقطر منذ بداية العلاقات التركية مع دمشق نهجاً مشتركاً، بل واحداً، في ما يتعلق بكل الأمور الخاصة بسوريا قبل الأزمة السورية وبعدها، ولولا هاتان الدولتان لما وصلت الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه الآن بكل تعقيداتها.
يفسر ذلك القمة الرباعية التي شارك فيها رجب طيب إردوغان وأمير قطر حمد آل ثاني والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في دمشق مع الرئيس بشار الأسد في أيلول/سبتمبر 2009، حيث اقترحت الدول الثلاث على الرئيس الأسد نقل الغاز القطري والخليجي إلى تركيا عبر الأراضي السورية لكسر الاحتكار الروسي والإيراني، وهو ما رفضه الأسد آنذاك. واعتبر البعض هذا الرفض من أهم الأسباب التي كانت وراء الحماس التركي- القطري- الفرنسي في الأزمة السورية منذ بدايتها.
ولم يمنع انقلاب عبدالفتاح السيسي في تموز/يونيو 2013 ضد جماعة الإخوان المسلمين في مصر الرئيس إردوغان وحليفه القطري الشاب الأمير تميم (استلم السلطة قبل انقلاب السيسي بأسبوع واحد فقط!) من الاستمرار في سياساتهما المعروفة في سوريا وتقديم الدعم المطلق والشامل لكل الفصائل الإسلامية، وهو ما اعترف به حمد بن جاسم.
ويفسر ذلك أيضاً الدور الذي لعبته قطر مع تركيا خلال القمة العربية التي انعقدت في الدوحة في 27 آذار/مارس 2013 حيث جلس أحمد معاذ الخطيب الرئيس المستقيل لما يسمى بـ"الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية" في المقعد المخصص للرئيس الأسد.
وسبق ذلك، الدور الذي لعبته قطر وتركيا معاً خلال اجتماع الدوحة بتاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، في إقناع الفصائل المسلحة وأطرافها السياسية لتوحيد صفوفها في كيان جديد سمي بـ"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" وترأسه أحمد معاذ الخطيب المقرب من إردوغان. كما لعبت أنقرة والدوحة دوراً أساسياً في إقناع خالد مشعل بإغلاق مكاتب ومخيمات حماس في سوريا والقتال ضد الدولة السورية التي لولاها لما كانت حماس موجودة أساساً.
هذا عن ذكريات الماضي التي على ما يبدو لم تنساها أنقرة والدوحة، وهو ما أكد عليه الوزيران جاويش أوغلو وآل ثاني عندما تحدثا عن استمرار موقفهما المعروف في ما يتعلق بالوضع الراهن للأزمة السورية وآفاق الحل المحتمل لهده الأزمة، وهما السبب في تأخر هذا الحل. هذا ما أكدت عليه موسكو أكثر من مرة وعلى لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته وكلاهما فشل في إقناع إردوغان بضرورة وقف الدعم للفصائل السورية المختلفة بما فيها جبهة النصرة في إدلب.
وقد رفض إردوغان، وما زال يرفض، أي تدخل سوري وروسي في إدلب على الرغم من تعهداته للرئيس بوتين في اتفاق سوتشي وبعد ذلك في اتفاق موسكو بتاريخ 5 آذار/مارس العام الماضي بالتخلص من جبهة النصرة. وكان هذا الرفض التركي المدعوم من الدوحة سبباً كافياً لتأزم الوضع في الشمال السوري، غرب الفرات وشرقه، وهو ما دفع أنقرة إلى إرسال ما لا يقل عن 10 آلاف مقاتل من قواتها إلى الشمال السوري بكامل معداتهم القتالية براً وجواً. ترافق ذلك مع استمرار تمويل أنقرة ودعمها مع الدوحة لما يسمى بـ"الجيش الوطني السوري" المعارض الذي يقاتل ضد الدولة السورية، رغم تأكيد لقاء الدوحة الأخير "على سيادتها المطلقة على كامل ترابها".
ويعرف الجميع بِما فيهم الرئيس بوتين أن هذا التأكيد كان وسيبقى حبراً على ورق مع استمرار الموقف التركي والقطري الذي كان مبرراً للوجود العسكري الأميركي في شرق الفرات. وهذا الوجود يمثل الخطر الأكبر الذي يهدد استقلال وسيادة ووحدة سوريا أرضاً وشعباً ودولة، ومن دون أن تفكر أنقرة في تحقيق أي خطوة عملية من أجل مواجهة هذا الخطر الذي يهددها ربما أكثر من سوريا، باعتبار أن وحدات حماية الشعب الكردية السورية تشكل امتداداً لحزب العمال الكردستاني التركي.
أما عن الواقع الحالي فالسؤال يتمحور حول السبب الذي دفع موسكو إلى أن تسلك هذا الطريق وتتفق مع الدوحة وأنقرة على آلية جديدة قد تتناقض مستقبلاً مع مساري أستانة وسوتشي، فيما تستبعد الآلية الجديدة طهران (اللاعب الأهم في سوريا) على الرغم من تضامنها مع الدوحة خلال أزمتها مع دول الخليج في حزيران/يوليو 2017.
والسؤال الآخر هو: لماذا تجاهلت موسكو إيران؟ حتى لو كان ذلك بناء على طلب من تركيا وقطر وهي تعرف جيداً أن هاتين الدولتين لا ولن تساهما في الحل النهائي للأزمة السورية إلا وفق حسابات إردوغان العقائدية، حتى لو تخلى عن ورقة الإخوان المسلمين تكتيكياً خلال مصالحته مع عدوه اللدود الرئيس عبدالفتاح السيسي. ويبدو أن الأخير ليس متحمساً حتى الآن لمثل هذه المصالحة التي قال عنها بيان الخارجية المصرية إنها "يجب أن تراعي الأطر القانونية والدبلوماسية التي تحكم العلاقات بين الدول على أساس احترام مبدأ السيادة ومقتضيات الأمن القومي العربي، كما على أنقرة أن تلتزم بقواعد القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار وأن تكف عن محاولات التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة".
والسؤال الثالث: ماذا ستفعل الرياض وأبو ظبي حيال هذا التحرك التركي- القطري التقليدي مع استمرار التواجد العسكري التركي في قطر جنباً إلى جنب مع القواعد الأميركية الاستراتيجية؟ يبقى السؤال مطروحاً حتى بعد المصالحة السعودية- القطرية- الإماراتية "والتضامن" التركي مع الرياض ضد جماعة "أنصار الله" الحوثية.
وأياً كانت حسابات إردوغان، وشريكه الصغير الأمير تميم، عربياً وإقليمياً ودولياً، يبدو واضحاً أن هذه الحسابات وفق المعطيات السابقة قد تكون لمواجهة "الدور الإيراني المحتمل في المنطقة" بعد الاتفاق النووي مع واشنطن والعواصم الغربية.
وليس واضحاً إن كانت موسكو التي سمحت للجيش التركي بدخول سوريا في آب/أغسطس 2016 ستواجه مثل هذا الاحتمال إن وجد وكيف؟ وهل هي مستعدة لإغلاق ملفي أستانة وسوتشي على حساب إيران وسوريا؟ أم أن كل ما نراه الآن لا يندرج إلا في إطار التحرك الروسي المصلحي لمواجهة الحملة أو الحملات الأميركية المتوقعة في المنطقة؟ هذا إذا تجاهلنا احتمالات التنسيق الروسي- الأميركي في كل هذه السيناريوهات.
ويعرف الجميع أن الرئيس إردوغان ما زال ينتظر مكالمة الرئيس الأميركي جو بايدن من دون أن يفكر بالمبادرة إلى أي خطوة عملية على طريق المصالحة مع الرئيس الأسد، على غرار ما سيفعله مع الرئيس السيسي، ليطوي بذلك راية الخلافة التي عاد بها السلطان سليم من القاهرة في 11 كانون الثاني/يناير 1517. كما سيجد نفسه مضطراً إلى نسيان كل ما قاله خلال الفترة الماضية بحق العاهل السعودي ونجله ولي العهد ورئيس الإمارات، بل وحتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
فالمصالحة مع الأسد ستعني بالنسبة لإردوغان العودة إلى ما قبل عام 2011 والقبول بالهزيمة وطي صفحة الخلافة والسلطنة العثمانية إقليمياً ودولياً، وهو ما يعني التخلي عن النهج العقائدي الإخواني المدعوم من دون أي مبرر منطقي من "الدولة الصغيرة" قطر.
خلاصة الكلام أن مصالحة إردوغان مع كل هذه الأطراف سيحتاج إلى أكثر من معجزة لأن ذلك سيعني أن يعود إردوغان "ديمقراطياً وعلمانياً" ويتخلى عن كل المكاسب الشخصية التي حققها بعد أن سيطر على جميع مؤسسات ومرافق وأجهزة الدولة التركية، ليساعده ذلك في تحقيق هدفه الأكبر وهو أسلمة الدولة والأمة التركيين مع ضمان حكمه إلى الأبد.
ويرى الكثيرون ممن يعرفون شخصية إردوغان أن مثل هذا الاحتمال من المستحيلات السبعة، هذا بالطبع إن لم يكن كل ما رأيناه كابوساً دفع ثمنه الشعب السوري غالياً بدمائه ودمار بلاده إشباعاً لغرائز الآخرين من الإخوة والأشقاء والأصدقاء، والرئيس بوتين يعرفهم جميعاً أكثر من الآخرين!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً