التوتر في أوكرانيا وقضية المضائق التركية.
يشهد الداخل الأوكراني، وخصوصاً الحدود الفاصلة بين غرب البلاد وشرقها، توتراً خطيراً يتوقع الكثيرون أن يتحوّل إلى مواجهات ساخنة بين أوكرانيا المدعومة من أميركا وبعض الدول الأوروبية وروسيا التي تدعم الانفصاليين شرق البلاد، الذين أعلنوا في العام 2014 حكماً ذاتياً في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
يكتسب هذا التوتّر أهمية إضافية مع اقتراب موعد المناورات المقرر إجراؤها الشهر القادم، بمشاركة القوات الأوكرانية ووحدات الحلف الأطلسي، وهي الأكبر من نوعها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. ترى موسكو في هذه المناورات التي تحمل اسم "الدفاع عن أوروبا – 21" خطراً يستهدفها بشكلٍ مباشر، لأنّها ستشمل البحر الأسود وبحر البلطيق الشمالي، وهي ساحات المواجهة الساخنة المحتملة بين روسيا والحلف الأطلسي.
يأتي كلّ ذلك مع استمرار مساعي واشنطن الحثيثة لضم أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف قبل نهاية العام الجاري، بعد أن ضمّت في العام 2004 كلاً من بلغاريا ورومانيا إليه، في محاولة منها لتضييق الحصار على روسيا في البحر الأسود الذي تطل تركيا أيضاً عليه.
وجاء اتصال الرئيس بايدن بنظيره الأوكراني زالينسكي (يهودي وصديق لنتنياهو)، وبعده الاتصالات التي أجراها وزراء الدفاع والخارجية ورئيس الأركان وسكرتير عام مجلس الأمن القومي الأميركي بنظرائهم الأوكرانيين خلال الأسبوع الجاري، لتثبت مدى جدية الوضع في المنطقة، بعد أن أكدت واشنطن دعمها المطلق لأوكرانيا في أزمتها مع روسيا.
لم يتأخّر الرد الروسي على هذه الاستفزازات الأميركية - الأوكرانية، فقامت موسكو بحشد قوات كبيرة جداً في المنطقة، وبدأت مناورات بحرية واسعة في شبه جزيرة القرم وإقليم كراسنودار جنوب شرق أوكرانيا وفي شمال البحر الأسود.
وقد اكتسب التوقيت الزمني لحديث رئيس البرلمان التركي مصطفى شانتوب عن صلاحيات الرئيس إردوغان للانسحاب من اتفاقية "مونترو" أهمية إضافية، لأنه تزامن مع التصعيد بين موسكو وواشنطن، وأثار نقاشاً جديداً في الشارع التركي والروسي والغربي، إذ وقّع 120 دبلوماسياً تركياً متقاعداً، وبعدهم 103 أميرالات متقاعدين، على بيانين منفصلين استنكروا فيهما كلام شانتوب، وقالوا: "إن الانسحاب من اتفاقية "مونترو" يضع تركيا أمام تحديات جديدة وخطيرة في سياستها الخارجية، ويجبرها على الانحياز إلى أحد أطراف الصراع في المنطقة".
جاء الرد سريعاً على لسان وزير الداخلية سليمان صويلو، وفخر الدين التون، المتحدث باسم الرئيس إردوغان، اللذين اتهما الأميرالات "بالسعي لمحاولة انقلاب جديدة"، فيما أقام وكيل النيابة العامة دعوى قضائية عاجلة ضد الموقعين على بيان العسكر، وطالب زعيم حزب الحركة القومية دولت باخشالي، حليف إردوغان، بمحاكمتهم وقطع المرتبات التقاعدية عنهم. ويرى البعض أن هذا النقاش مقدمة لما يحضّر له إردوغان في ما يتعلق بالمضائق ورفع مستوى المساومة مع الرئيس بوتين.
وكانت اتفاقية "مونترو" للعام 1936 قد اعترفت بملكية تركيا لمضيقي البوسفور والدردنيل، مع ضمان حرية الملاحة التجارية فيهما لجميع السفن، وحددت شروطاً صارمة على مرور السفن الحربية التي تملكها الدول غير المطلة على البحر الأسود من هذه المضائق. لا تخفي واشنطن عدم ارتياحها إلى هذه الاتفاقية، وهي تخطط منذ سقوط الاتحاد السوفياتي لإرسال أكبر عدد ممكن من سفنها الحربية إلى البحر الأسود والقواعد التي تسعى الآن لإنشائها في بلغاريا ورومانيا، ولاحقاً أوكرانيا وجورجيا.
وبدعم تركيا لهذا المخطط الأميركي، ستجد السفن الحربية الروسية نفسها في وضع صعب في الطريق من البحر الأبيض المتوسط وإليه. وقد اعتبرت أوساط دبلوماسية روسية قناة إسطنبول التي يسعى إردوغان لشقّها بين بحر مرمرة والبحر الأسود، وبشكل موازٍ لمضيق البوسفور، محاولة من أنقرة للالتفاف على اتفاقية "مونترو"، حتى يتسنّى للسفن الحربية الأميركية والأطلسية المرور في هذه القناة بالكم والكيف اللذين تشاؤهما، بعيداً من شروط اتفاقية "مونترو".
كل هذه المعطيات تجعل تركيا، بشكل مباشر أو غير مباشر، طرفاً مهماً في المواجهات الساخنة المحتملة في أوكرانيا، نظراً إلى علاقات أنقرة الاستراتيجية المتشابكة مع كييف، وخصوصاً في مجال الصناعات الحربية، وفي مقدمتها المحركات النفاثة للطائرات المسيّرة والصواريخ المتطورة. يُضاف إلى ذلك الاهتمام التركي الديني والقومي بمنطقة القرم التي يشكل المسلمون حوالى 15% من سكّانها، مع ذكرياتهم السيّئة خلال الحكم السوفياتي الشيوعي، العدو العقائدي للدولة التركية، وهي وريثة الإمبراطورية العثمانية التي تعدّ العدو التاريخي للإمبراطورية الروسيّة.
مهما كانت التطورات المحتملة في الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها على الدور التركي في منطقة البحر الأسود، بحساباتها المعقدة، لا تهمل موسكو وواشنطن (وحلفاؤهما الأوروبيون) حسابتهما الإقليمية والدولية الأخرى في منطقتي الأبيض المتوسط والأحمر، وخصوصاً مع استمرار الأزمات السورية واليمنية والصومالية والليبية، وانعكاساتها على موازين القوى في حوضي مضيقي هرمز وباب المندب وشرق الأبيض المتوسط، حيث تتواجد "إسرائيل" التي تجاور الأردن بأحداثه الأخيرة المفاجئة.
وهنا، تكتسب التحركات الروسية – الإيرانية - الصينية الأخيرة بعناصرها المختلفة أهمية إضافية، لأنها أزعجت وأقلقت العواصم الغربية التي وجدت نفسها مضطرة، ولو في محاولة أخيرة منها، إلى إبعاد طهران عن هذا التحالف، عبر العودة إلى الاتفاق النووي بأسرع ما يمكن.
وتعتقد واشنطن والعواصم الغربية أن ذلك قد يساعدها للتفرغ لأزمة أوكرانيا، وبعدها لقضايا مماثلة في مناطق أخرى، تهدف من خلالها إلى تضييق الحصار على روسيا في حدائقها الخلفية في آسيا الوسطى والقوقاز، حيث جورجيا وأذربيجان ذات الصلة المباشرة مع تركيا.
وقد بات واضحاً أنها، وبكل مزاياها الجيوستراتيجية، ستكون ساحة المنافسة، وربما الصراع المستقبلي المباشر وغير المباشر بين واشنطن وموسكو، وهما تتسابقان معاً لكسب المزيد من المواقع في ساحتها، وهو ما يدعم موقف الرئيس إردوغان خارجياً، لأن حساباته باتت متداخلة في سوريا وكاراباخ مع روسيا وحليفتها إيران، كما سيدعم مشاريعه ومخططاته داخلياً للبقاء في السلطة إلى الأبد، بفضل الدعم الاقتصادي والمالي الأميركي والأوروبي. ومن دون ذلك، لا يمكنه أن يحقق شيئاً.
يبقى الرهان على فحوى المكالمة الهاتفية التي ينتظرها الرئيس التركي من الرئيس بايدن، والتي كتب من أجلها الكثيرون العديد من السيناريوهات المختلفة التي ستنعكس بنتائجها على مجمل المنافسات الأميركية - الروسية. سيرفع هذا الاحتمال سقف المساومة بين إردوغان وكلٍّ من بوتين وبايدن. ومن يدفع منهم أكثر سوف يكسب تركيا إلى جانبه أو يمنعها من التحالف مع عدوه.
حتى تلك الساعة، يبدو واضحاً أن الجميع يراهن على مضمون الصفقة التي سيقترحها الرئيس بايدن على الرئيس إردوغان، وشروط الأخير للقبول بتفاصيلها أو رفضها، وهو يدري أن الرئيس بوتين يملك بدوره ما يكفيه من الأوراق لإبقاء تركيا خارج الحلبة الأميركية، حتى لا تعود، كما كانت في سنوات الحرب الباردة، سمكة عالقة في الصنارة الأميركية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً