المعاني كثيرة والرمز واحد!
من دون أيّ خجل، سأقول بكلّ صراحة إنَّ ما كتبه صديقي العزيز أحمد الدرزي في وفاة أنيس النقاش هزّني أكثر من خبر وفاة والدي قبل سنوات طويلة، وقبل ذلك وفاة شقيقي الأكبر في حادث سير بين حمص وحماه، من دون أن يعني ذلك أنني لم أتألم لاستشهاد الرجلين العظيمين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
أذكر أنّ أول لقاء بيني وبين أنيس كان في خريف العام 2009 في دمشق، حيث تحدثنا مطولاً عن العلاقات التركية-السورية بكل أبعادها آنذاك ومستقبلاً. كان متشجّعاً جداً لهذه العلاقات التي كنا نرى فيها، أنيس وأنا، الفرصة التاريخية لإعادة ترتيب أمور المنطقة عبر التنسيق والتعاون الإقليمي بين سوريا وتركيا "السنية العثمانية" وإيران "الشيعية الفارسية"، وبانضمام العراق (كان آنذاك محتلاً) لاحقاً إلى هذا المحور، مع التأكيد على مضمونه المعادي للصهيونية العالمية والإمبريالية والرجعية العربية.
كما كنت وأنيس حريصين على استخدام لغة الحوار الإيجابي والبناء لتجاوز كل العقد السياسية والاجتماعية والنفسية التي كانت تعرقل، وما زالت، المعالجة السليمة لكل مشاكل المنطقة، وفي مقدمتها المشكلة الكردية، وما يسمى بالمنافسات والخلافات، وأحياناً العداءات القومية والمذهبية.
مع الأسف، كان أعداؤنا أقوى منا جميعاً عندما تآمروا على هذه المنطقة بما يسمى بـ"الربيع العربي" الذي استهدف سوريا في الدرجة الأولى، باعتبارها قلعة الفكر الصامد، كما كان أنيس يصفها، على الرغم من كل السلبيات التي عاشتها، وما زالت، وعبرها المنطقة برمتها، من دون أن يمنعه هذا الوضع الصعب والمعقد من الاستمرار في نضاله لتحقيق هدفه وهدف رفاقه من أجل معادلة إقليمية جديدة، فتنقل بين دمشق وطهران وبيروت وبغداد وتركيا حيث كنا نلتقي.
كان آخر هذه اللقاءات في 24 شباط/فبراير 2020، عندما جلسنا مع زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، والتقت أفكارنا معاً عندما تحدث الأخير عن فكرته لتشكيل منظمة شرق أوسطية للسلم والتعاون، تضم سوريا وإيران وتركيا والعراق، على الرغم من سياسات إردوغان التي كانت وما زالت ضد هذا النهج.
وقد سبق لكليجدار أوغلو وقيادات حزبه، وأنا معهم، أن زرنا بغداد في آب/أغسطس 2013، والتقينا كل القيادات السياسية، وتحدثنا عن المشروع الذي بلوره أوغلو لاحقاً، وسعى لضم مصر إليه، وهو ما اعترض عليه إردوغان بشدة، متهماً كليجدار أوغلو "بالتحالف مع أعداء تركيا، أي الأسد والسيسي".
وكان لقائي السابق مع أنيس في إسطنبول في 16 نيسان/أبريل 2019، إذ شارك ومعه عدد من المناضلات والمناضلين العرب في فعالية نقابية، وكانت رفيقته في النضال ليلى خالد من بين الحاضرين.
تحدّثنا مطولاً عن الواقع العربي وضرورة إحياء فكرة الحوار الإقليمي، وكنا، أنيس وأنا، نتحدث عنه في كل لقاء مطول في بيروت أو دمشق طيلة السنوات العشر الماضية، على الرغم من سياسات إردوغان المعروفة. كان لقاؤنا في دمشق في 4-5 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، هو الأكثر عاطفية، إذ شاركنا في مؤتمر "الواقع العربي بعد مئة عام على وعد بلفور"، الذي نظمته مؤسسة "وثيقة وطن" التي تترأسها الدكتورة بثينة شعبان.
عاد أنيس من لقاء دعي إليه مع مجموعة من المشاركين في المؤتمر مع الرئيس الأسد، ليعبر عن انزعاجه لعدم دعوتي إلى هذا اللقاء، فقلت له: لا تغضب يا أخي. أنا معتاد على هذه العقليات التي عذبتي أكثر من عذابي في تركيا. وأذكر العام الماضي بعد خروجي من السجن، أنني جئت إلى دمشق، وتحدثنا في الفندق، وكانت المعاملة نفسها.
حتى لا أطيل حكاياتي مع أنيس، وهي كثيرة، ومضامينها مهمة جداً، ورفيق نضالنا المشترك الدكتور أحمد الدرزي شاهد على إحداها في دمشق قبل عام ونيف، ما عليّ إلا أن أعد الراحل بأنني سأبقى على الدرب سائراً وثائراً، فهو الإنسان العظيم الذي يستحقّ كلّ وعد من كلّ الشرفاء، وهم كثيرون. لقد استحقوا أنيس واستحقهم جميعاً على هذا الدرب الطويل الذي ستكون نهايته بعظمة الرفيق أنيس وإيمانه.
وداعاً يا أنيس. عسى أن نلتقي وبيننا الكثير من الكلام والآمال والآلام.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً