بعد سوريا.. هل من أستانا جديدة للقوقاز؟
لقد سبقت القوقاز المنطقة العربية بربيعها الذي بدأ في العام 2003-2004 في أوكرانيا وجورجيا عبر الثورة البرتقالية ثم الوردية، التي أراد الغرب من خلالها أن يحاصر روسيا، التي كانت تعيش تبعات الأزمة الشيشانية المجاورة لمنطقة القوقاز بدولها الثلاث أرمينيا وجورجيا وأذربيجان.
ورغم أنّ هذه الثورات الملوّنة انتكست، وتمزّقت أوكرانيا وجورجيا، وفشلت أذربيجان في تحرير أراضيها التي احتلها الأرمن خارج إقليم ناغورنو كاراباخ في العام 1991-1992، فإنَّ الغرب لم يتراجع في سياساته التقليدية ضد روسيا، وهو ما كان يفعله في العهد السوفياتي سابقاً.
وجاء "الربيع العربي" ليساعد موسكو في الردّ على المخططات والمشاريع الأميركية والغربية، عبر انخراطها (أيلول/سبتمبر 2015) في سوريا التي منحتها فرصة التموضع الاستراتيجي في الأبيض المتوسط، وهو ما ساعدها على التحالف مع الجنرال حفتر في ليبيا أيضاً، من دون أن يعني ذلك أن الأمور كانت، وما زالت، سهلة بالنسبة إلى الرئيس بوتين، كما هو الحال في القوقاز، الذي لم يكن للرئيس إردوغان فيه آنذاك أي دور جدي ومؤثر، خلافاً لما هو عليه الوضع الآن في سوريا، وهو ما دفع بوتين إلى الدخول في "تحالفات" مرحلية معه في سوريا، تحت غطاء ما يسمى بتفاهمات أستانا التي انطلقت مع بدايات العام 2017، بعد اللقاء الاستراتيجي بينهما في آب/أغسطس 2016، عندما اعتذر إردوغان إليه عن إسقاط الطائرة الروسية في سوريا في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، فكان الرد من بوتين بالسماح للجيش التركي بدخول جرابلس في 24 آب/أغسطس 2016 في الذكرى الـ500 لدخول السلطان سليم إلى سوريا بعد معركة مرج دابق.
وقد أراد بوتين "لتحالفه" مع إردوغان أن يساعده في زعزعة "وحدة الصف" داخل الحلف الأطلسي، ومن خلاله نسف علاقات الثقة التقليدية بين أنقرة وواشنطن. بدوره، استغلَّ الرئيس التركي الضوء الأخضر الروسي هذا، فتوغل داخل الأرض السورية، وتحول إلى لاعب أساسي في مجمل تطورات سوريا، وخصوصاً بعد أن سيطر الجيش التركي على الشريط الحدودي السوري مع تركيا من جرابلس إلى عفرين.
وكان التحالف الاستراتيجي بين أنقرة والفصائل السورية، السياسيّة منها والمسلَّحة (حوالى 60-70 ألف مسلح)، بغياب الأدوار العربية التقليدية، وفي مقدمتها السعودية والأردنية، كافياً بالنسبة إلى إردوغان الذي أمسك بزمام الملف السوري من كلّ جوانبه، وخصوصاً بعد دخول الجيش التركي شرق الفرات، وهذه المرة بضوء أخضر أميركي وروسي معاً.
ويفسر ذلك فشل كلّ المحاولات والضغوط الروسية عليه، لإقناعه أو إجباره على الانسحاب من جوار إدلب، التي يعتبرها ساحة التحدي الأكبر في علاقاته مع روسيا، التي باتت أنقرة تتحداها في ساحات أخرى، ومنها ليبيا، والآن كاراباخ.
هذا بالطبع إن لم يكن هناك اتفاق مسبق بين الطرفين، كما كان الحال عليه في أستانا ثم سوتشي، وكل ذلك على حساب سوريا، والآن أرمينيا، التي لا يوجد فيها أي يهودي، خلافاً لباقي دول العالم الأخرى، ومنها جارتها وعدوتها أذربيجان، وفيها جالية يهودية قوية ومؤثرة لها ثقل مالي في موسكو وتل أبيب وواشنطن أيضاً.
وهنا يكتسب الاهتمام الإيراني بالتطورات الأخيرة أهمية إضافية وحساسة، باعتبار أن أرمينيا وأذربيجان، ومعهما كاراباخ، دول مجاورة لإيران، خلافاً لما هو عليه الوضع في سوريا المعروف عنها تحالفها التقليدي معها.ولا يختلف الموقف الروسي عما هو عليه الإيراني في القوقاز، بسبب قرب هذه المنطقة من جمهوريات الحكم الذاتي ذات الأغلبية الإسلامية، وأهمها الشيشان وداغستان وأنغوشيا والجركس، وصولاً إلى القرم، التي ضمتها روسيا إليها، كما ضمت أوسيتيا الجنوبية، وبشكل غير مباشر أبخازيا.
وتحدث الإعلام الروسي والغربي خلال الأسبوع الماضي عن العديد من السيناريوهات، بل المخاوف الروسية من احتمالات أن تتحوَّل أذربيجان بعلاقاتها الاستراتيجية العسكرية والاستخباراتية مع "إسرائيل" من جهة، وتركيا من جهةٍ أخرى، إلى ساحة حساسة تنطلق منها المجموعات الإرهابية ضد إيران. ولم تعد روسيا بعيدة جغرافياً عن هذا الخطر، خلافاً لوضعها الحالي في سوريا.
وترى بعض الأوساط الدبلوماسية في التحركات الروسية والإيرانية على أعلى مستوى اتفاقاً محتملاً بين موسكو وطهران لمواجهة الخطر المشترك، سواء كان تركياً (بالمفهوم العرقي والطائفي) أو إسرائيلياً، بمختلف المفاهيم التي لن تتردد تل أبيب في استغلالها ضد العدوتين إيران وروسيا.
وسيدفع ذلك الرئيسين بوتين وروحاني إلى التفكير في تحرك مشترك وسريع مع "أستانا جديدة، كبديل لمجموعة مينسك التي تضم فرنسا إلى جانب روسيا وأميركا"، أو ضد تركيا التي ما عليها في هذه الحالة إلا أن تختار بين "صديقتيها في أستانا" و"عدوتها التقليدية إسرائيل"، وعلى حساب أو من أجل شقيقتها أذربيجان، مع الانتباه إلى الأحداث الأخيرة في قرغيزيا، وهي أيضاً من الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى؛ الحديقة الخلفية لروسيا.
وقد بات واضحاً أن تفاهمات أستانا الجديدة، إن تحقّقت، فستكون على حساب أرمينيا، التي يبدو أن بوتين أراد "ترويضها" بعد مغامرات رئيس وزرائها باشينيان، الذي سعى إلى "مغازلة" الغرب، لكنه فشل كما فشل في ابتزازاته عندما كان صحافياً، فقد وصل إلى السلطة بعد انتفاضة شعبية "غير ملونة" مدعومة من الغرب في العام 2018، ولكنه ألحق الهزيمة بوطنه وشعبه بسبب تكتيكاته وحساباته الخاطئة التي سبق أن ارتكبها الرئيس الجورجي ساكاشفيلي، فتمزقت بلاده بالكامل بعد حربه مع روسيا في آب/أغسطس 2008.
ويتوقع البعض لباشينيان أن يدفع ثمن أخطائه الفادحة التي ارتكبها، بالاستسلام لموسكو أو باستقالته وعودة الرئيس السابق كوجاريان إلى السلطة بحماية روسية، ولكن بعد الانسحاب من معظم الأراضي الأذربيجانية خارج إقليم كاراباخ، في إطار خطة شاملة "لوقف إطلاق النار وخفض التصعيد" بين الطرفين، وهو ما تحقق بعد أستانا بين دمشق والفصائل المسلَّحة، وهو النصر الذي يحتاج إليه الرئيس عالييف بسبب وضعه الداخلي المتردي، بعد أن قضى على الديموقراطية، وتلطَّخت سمعته وسمعة عائلته بقضايا فساد خطيرة جداً.
كما يحتاج إردوغان إلى مثل هذا الانتصار، بل إلى التفوق العسكري والنفسي في أذربيجان، ليملك المزيد من الأوراق في مساوماته مع طهران وموسكو، وهو يعتقد أنه أقوى منها معاً، لأسباب عديدة، من بينها أن تركيا تملك المزيد من الإمكانيات في تحدياتها لبوتين وروحاني، وإلا لما تدخَّل الرئيس التركي بهذا الشكل المباشر والقوي في القوقاز، ودخل في تحالفات استراتيجية مع أوكرانيا، وأرسل صواريخ "أس-400" إلى منطقة البحر الأسود (قرب القوقاز)، كان من المقرر أن يتم نصبها جنوب البلاد، أي قرب سوريا وقبرص واليونان.
وترى المعارضة في توجهات إردوغان وتصرفاته هذه المزيد من المغامرات الخطيرة التي يبدو أنه لن يتراجع عنها لأسباب عقائدية يريد لها أن تجعل منه زعيماً لكل المسلمين في العالم. ويفسر ذلك تصريحاته الأخيرة التي هدَّد فيها بالتدخل المباشر في سوريا ضد الكرد، وعدم السماح للجيش السوري بالاقتراب من إدلب، كما يفسر التصعيد من جديد في قبرص، وقريباً مع اليونان، وربما ليبيا والعراق، على الرغم من موقف القمة الأوروبية الأخيرة التي هدَّدت بإغلاق أبواب الاتحاد الأوروبي في وجهه إلى الأبد.
ورغم ذلك، يرى إردوغان في مثل هذه التهديدات والتحديات واحتمالات المواجهة الساخنة، حتى مع روسيا وإيران، فرصته الذهبية لإطلاق المزيد من الشعارات الحماسية عبر الإعلام الموالي، الذي يدعوه "إلى تلقين هاتين الدولتين، وكل من يعادي تركيا، وريثة الدولة العثمانية، أيضاً، الدروس التي تستحقها، لأن تركيا اليوم لم تعد تركيا الأمس"، والقول هنا له!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً