بين التّكتيك والاستراتيجيّة.. إردوغان يتودَّد إلى آل سعود وأوروبا
كما عوَّدنا دائماً، فاجأنا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان باتصاله الهاتفي بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، وهو الذي قال عنه وعن نجله محمد ما لا يُقال دبلوماسياً خلال العامين الماضيين. وكانت جريمة الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول السبب الرئيسي ربما في موقف إردوغان وإعلامه الذي هاجم، وما يزال، ولي العهد محمد بن سلمان ومعه محمد بن زايد، وبأعنف الألفاظ وأقبحها.
وكان موقف الرياض المتضامن مع القاهرة، وحربها ضد الإخوان المسلمين بعد تموز/يوليو 2013، وعدائها للدوحة بعد حزيران/يونيو 2017، من الأسباب الأخرى لحملات الرئيس إردوغان ضد آل سعود، وتاريخ علاقاتهم سيئ جداً مع تركيا جمهورياً وعثمانياً.
لقد تمرد عبد الله بن سعود على الدولة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر، فاستنجد السلطان العثماني بحاكم مصر محمد علي باشا، الذي أرسل نجله إبراهيم باشا إلى الحجاز، فقضى على التمرّد، ثم أسر زعيمه عبد الله بن سعود وأرسله إلى إسطنبول مكبلاً بالسلاسل، فقطع السلطان محمود الثاني رأسه في شباط/فبراير 1820. قد يكون ذلك سبباً لاختيار محمد بن سلمان إسطنبول مكاناً لقتل خاشقجي وقطع رأسه، وكأنه أراد أن يرسل رسائل خاصَّة إلى إردوغان، الذي يقول إنه امتداد للدولة العثمانية، فخاشقجي من أصول تركية وخطيبته تركية.
بالعودة إلى الاتصال الهاتفي المفاجئ، فقد أعلنت الرئاسة التركية أن إردوغان وسلمان اتفقا "على ضرورة أن تبقى قنوات الحوار مفتوحة، لحلّ كل المشاكل الموجودة وتطوير العلاقات بين البلدين".
وعلى الرغم من أنَّ الاتصال جاء عشية قمة مجموعة العشرين التي تترأسها السعودية، فليس مستبعداً أن يتضمَّن معاني أخرى، ومنها احتمالات التنسيق والتعاون التركي - السعودي في مواجهة الموقف الأميركي المحتمل بعد استلام بايدن السلطة في 20 كانون الثاني/يناير القادم، فالجميع يتذكرون أن بايدن حمَّل في تشرين الأول/أكتوبر 2014 "تركيا والسعودية والإمارات مسؤولية المجموعات الإرهابية في سوريا والمنطقة"، كما أنهم يتذكّرون "اعتراضه على حماية ترامب لمحمد بن سلمان في موضوع خاشقجي"، وحديثه "عن ضرورة دعم المعارضة التركية للتخلّص من نظام إردوغان الديكتاتوري".
مواقف الرئيس بايدن قد تكون القاسم المشترك في المصالحة المحتملة التي قد يسعى إليها الرئيس إردوغان مع مؤشرات سعودية إيجابية، إذ قال وزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان إن "الرياض لديها علاقات طيبة وودية مع أنقرة"، فقد كانت الرياض وأنقرة، ومعها الدوحة، في خندق واحد ضد دمشق، التي قد تكون من جديد سبب التقارب بين السعودية وتركيا التي لا تريد لأحد في المنطقة أن يصالح الرئيس الأسد!
إعلان الرياض الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، ومتانة علاقتها مع القاهرة، واستمرار التوتر مع الدوحة، لن تمنع جميعها الرئيس إردوغان من اتخاذ مواقف تكتيكية وفق المثل العربي الذي يقول: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، والغريب في هذه الحالة هو الرئيس بايدن الذي يُتوقع أن يولي موضوع الديموقراطية وحقوق الإنسان والإصلاحات أهمية خاصَّة في علاقته المستقبلية مع إردوغان وآل سعود، وهو ما احتاط له الرئيس إردوغان بخطاب تكتيكي جديد، عندما قال السبت قبل ساعات من قمة العشرين: "إننا نرى في أنفسنا جزءاً من أوروبا، ونسعى إلى بناء مستقبلنا في الاتحاد الأوروبي ومعه".
أتى ذلك في الوقت الذي كان مستشاره إبراهيم قالين يلتقي في بروكسل مسؤولي الاتحاد الأوروبي، ليعلن من هناك "أن الانضمام إلى الاتحاد كان وسيبقى دائماً هدف تركيا الاستراتيجي". وأدَّت أقوال إردوغان وقالين إلى ردود فعل المعارضة التي ذكرت إردوغان بالعشرات من تصريحاته السابقة التي هاجم فيها الاتحاد الأوروبي بأشد العبارات، متهماً "إياه بالعداء لتركيا وتاريخها ودينها"، معلناً "تخليه عن الهدف الاستراتيجي للجمهورية التركية، ألا وهو التكامل السياسي والاقتصادي والثقافي مع المجموعة الأوروبية".
حديث إردوغان "العاطفي" حمل في طياته كالعادة رسائل تكتيكية للزعماء الأوروبيين الذين سيجتمعون في 10-11 من الشهر القادم ليقرروا مصير علاقاتهم به، بعد أن اتهمه العديد من هؤلاء الزعماء "بانتهاج سياسات استفزازية عدائية ضد أوروبا ودولها، كاليونان وقبرص، وفي مناطق أخرى، كليبيا وسوريا وأرمينيا ودول البلقان، التي تقوم تركيا بتحركات واسعة فيها في جميع المجالات".
وفي حال تحققت احتمالات المصالحة الخليجيّة، فستتحوّل سوريا من جديد إلى قاسم مشترك بين أنقرة وعواصم الخليج التي سيعيد إردوغان النظر في علاقاته معها وفق تطورات المرحلة القادمة في ظل عملية التطبيع مع "إسرائيل"، إذ أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان عن تأييده لهذا التطبيع.
تثبت كل هذه المعطيات مساعي الرئيس إردوغان للتحضير للمرحلة القادمة، بعد دخول الرئيس بايدن البيت الأبيض، مع احتمالات العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران، وهو الاحتمال الوحيد الّذي سوف يضع إردوغان- في حال تحقّقه، باعتبار إيران جارة لتركيا وشريكاً معها في أستانا- أمام خيارات متناقضة بين التكتيك والاستراتيجية، بعيداً من المبادئ، في عالم المتغيرات اليومية التي أثبت إردوغان أنه محنَّك فيها على صعيد السياسة الداخلية، وهو الآن يجرب حظه فيها خارجياً، وهو ما سينعكس في جميع الحالات على علاقات أنقرة الخارجية إقليمياً ودولياً، ليدفعه ذلك إلى إعادة النظر في علاقته مع الرئيس بوتين، بعد أن حقق كل أهدافه من هذه العلاقة. وقد حان الأوان له للبحث عن مصالح أخرى من خلال أشخاص آخرين، ولكن بانتظار الإشارات الأولى من الرئيس بايدن.
وإذا خطا بايدن خطوة إيجابية صوب إردوغان، فسوف يردّ عليه الأخير بخطوتين، وإلا سيتذكّر إردوغان تاريخه العثماني، إذ كان شعار العسكر الانكشاري: "خطوة إلى الأمام، وخطوتان إلى الوراء"، وهو الاحتمال الذي سيرشح تركيا إلى كثير من المفاجآت التي يبدو أنَّ الرئيس إردوغان يرى فيها تسليته، ما دام يعتقد أنه الأقوى إقليمياً ودولياً، وهو ما أثبته على الأقل حتى الآن، ولو كان ذلك على حساب الدولة والأمة التركية التي تعيش أصعب أزماتها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، نظراً إلى انعكاسات ذلك على العادات والتقاليد والثقافة والنفسية التركية، فهي تعيش الآن تناقضات حكم العدالة والتنمية منذ 18 عاماً، وبشكل خاص بعد تحويل النظام إلى رئاسي، وسيطرة إردوغان بشكل مطلق على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وأجهزتها، فهو يقرر بمفرده فقط "مصير كل صغيرة وكبيرة في الداخل والخارج، وعلى مزاجه الشخصي"، والقول هنا لأحمد داود أوغلو، الّذي كان رئيساً لحكومته، وهو الآن من ألدّ خصومه!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً