العدوان على غزة.. وين الملايين؟
الاشراق | متابعة.
"وين الملايين.. الشعب العربي وين.. الغضب العربي وين.. الدم العربي وين.. الشرف العربي وين.. وين الملايين.. وين وين وين..".. بضع كلمات من أغنية جوليا بطرس بعنوان "وين الملايين" القديمة، تحوّلت فجأة إلى أغنية مئات الآلاف من الشعب التركي على الرغم من أنهم لا يجيدون اللغة العربية، لكن تمت ترجمة ما جاء فيها ونشرها في عشرات الآلاف من الحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي.
واكتسبت الأغنية أهمية إضافية لانتقاد جوليا بطرس موقف الملايين من العرب، وهو ما يستغربه الأتراك الذين يتحدثون باستمرار عن خنوع الأنظمة العربية واستسلامها ومعها تناقضات الرئيس التركي إردوغان وتركيا عموماً تجاه العدوان الصهيوني على غزة، فيما عدّ مئات الآلاف من المواطنين الأتراك الفقرات الآتية من الأغنية تعبيراً عن صمود الشعب الفلسطيني العظيم عندما تقول جوليا:
"الله معانا أقوى وأكبر من بني صهيون
يشنق يقتل يدفن يقبر أرضي ما بتهون
دمي الأحمر راوي الأخضر في طعم الليمون
نار الثورات ما تسعر نحن المنتصرين"
ومن دون أن تكون كلمات جوليا كافية لتحريك الشارع التركي، كما هي الحال بالنسبة إلى معظم الشعوب العربية التي لم تخرج إلى الشوارع للتعبير عن دعمها لنضال الشعب الفلسطيني الصامد ضد همجية العدوان الصهيوني وهو ما فعله ويفعله الملايين من شعوب الدول الأخرى، بما فيها أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهي الأكثر دعماً للكيان الصهيوني.
ومع غرابة الموقف بالنسبة إلى الشعوب العربية والإسلامية التي تتضامن غالبيتها عاطفياً فقط مع الشعب الفلسطيني من دون أن تثبت مشاعرها هذه بالأفعال، تحوّلت أخبار العدوان الهمجي على غزة إلى حدث يومي تقليدي يؤلم الكثيرين، ولكنه لا يحرك فيهم مشاعر التمرد والثورة على الواقع المرير الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
وكانت حالة اليأس والخنوع والقبول بالأمر الواقع المفروض على الجميع هدف مجمل سياسات التطبيع بين الكيان الصهيوني والأنظمة العربية، بدءاً من مصر ثم الأردن والسلطة الفلسطينية وأخيراً الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، ومن معها في السر والعلن.
وبمعنى أكثر وضوحاً، فإن هدف اتفاقيات الاستسلام في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو وأخيراً الاتفاقيات الإبراهيمية هو إقناع أو إجبار الشعوب العربية، لأن لا فائدة من معاداة "إسرائيل" التي لا تقهر، ما دامت أميركا معها، وما على الشعوب العربية إلا أن تنسى دينها وعروبتها اللذين يمنعانها من القبول بالكيان اليهودي الصهيوني المحتل.
وتعكس أخبار وسائل إعلام أنظمة الدول المذكورة وبرامجها بكل وضوح تواطؤ أصحابها، وتكشف حقيقة المشروع الخطير الذي يهدف إلى تحطيم مشاعر التعاطف والتضامن مع الشعب الفلسطيني حتى لا تجرأ شعوب الأنظمة المذكورة على اتخاذ أي موقف عملي على طريق رفض التطبيع، وبالتالي الثورة على حكامها. لتكون الخطوة التالية توحيد قواها من المحيط إلى الخليج والزحف صوب القدس الشريف وإزالة الكيان الغاصب المحتل الذي لا يحسب أي حساب لأي سيناريو مهما كان معقداً وخطيراً، باستثناء انفجار الوعي الوطني والقومي والديني بل والإنساني لدى الشعوب العربية والإسلامية.
كما هي الحال في نموذج الشعب اليمني العظيم الذي وضعت كل الدول الإمبريالية والاستعمارية ومن معها دولياً وإقليمياً ألف حساب من أجله، ولكنها خسرت وهزمت معاً. وربما لهذا السبب تستنفر الأنظمة المتواطئة كل إمكانياتها وبشتى الوسائل لمنع أي حراك شعبي قد يهدد وجودها، ولولاها لما وجد الكيان الصهيوني أساساً. ويفسر ذلك موقف أحد رجال الدين المشهورين وهو من الموالين لإردوغان ويدعى أحمد أونلو، إذ أكد "ضرورة التهرب من المواقف العدائية لإسرائيل واليهود الذين يستطيعون أن يدمروا تركيا ومصرفها المركزي"، على حد قوله.
وجاء حديث أونلو هذا بعد خطاب ناري لزعيم حزب "الشعب الجمهوري" أوزكور أوزال الذي قال إنه سيزور غزة قريباً مع من يريد ذلك من الزعماء السياسيين، ودعا الرئيس إردوغان إلى مشاركته في هذه الزيارة "إن لم يكن جباناً"، على حد قوله. ولم يتأخر إعلام المعارضة في تذكير الشعب التركي بتصريحات سابقة للرئيس إردوغان الذي قال في 12 أيلول/سبتمبر 2011 "أحن إلى غزة الحبيبة وسأزورها في أقرب فرصة". بيد أن حليفه الاستراتيجي أمير قطر حمد آل ثاني سبقه إلى غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2012. ومن دون أن يمنع ذلك إردوغان من الحديث مرات أخرى عن رغبته في زيارة غزة، لكنه لم يحقق رغبته وأمنيته هذه بسبب توتر علاقاته مع القاهرة بعد أن أطاح السيسي الرئيس الإخواني محمد مرسي، وهو ما أغضب إردوغان الذي عاد وصالح السيسي العام الماضي. ومن دون أن يمنعه ذلك من بيع إثيوبيا الطائرات المسيّرة والأسلحة الأخرى، كما لم يمنعه من الاستمرار في سياساته المعادية للحسابات المصرية في ليبيا.
وفي جميع الحالات، ومع استمرار تناقضات الموقف التركي، حاله حال بعض الدول الإسلامية الأخرى التي لا تخرج عن الحلبة الأميركية، فالرهان يجب أن يكون على رد فعل الملايين العربية، وفق كلام جوليا بطرس.
ويتمنى الشعب الفلسطيني لهذه الملايين ألا تكتفي بالإعلان عن مشاعرها العاطفية، ويطلب منها أن تتخذ ولو لمرة واحدة موقفاً عملياً ومؤثراً وسريعاً قد يجبر أولاً الأنظمة المتواطئة على الكف عن خنوعها وعبوديتها، وبالتالي يضع حداً نهائياً للغدر الصهيوني الهمجي.
كما على هذه الملايين أن تتضامن مع المقاومة الإسلامية في لبنان والشعب اليمني وتشجعهما على مزيد من المواقف النضالية.
لأن الكيان الصهيوني ووفق عقيدته لا ولن يرحم كل من يعرقل مشاريعه ومخططاته لإقامة دولته اليهودية الكبرى من النيل إلى الفرات. ومن أجلها جاء اليهود من شتى أنحاء العالم إلى فلسطين ليقتلوا ويشردوا من فيها ومن معهم في لبنان وسوريا والعراق ومصر والأردن، لأنها ضمن حدود "دولتهم" المنشودة ومن أجلها سيدمر الصهاينة جميع دول المنطقة.
وهو ما يفعلونه منذ قيام كيانهم المحتل، وأخيراً في سنوات ما يسمّى بـ "الربيع العربي"، حيث كانت أنظمة التواطؤ والعمالة في خدمة هذا الكيان، بعد أن نجحت في شراء ذمم الملايين من شعوبها وبشعارات طائفية وقحة وحقيرة. وهو ما تسعى لتكراره الآن خلال الحديث عن غزة وكأن من يعيش فيها أو في الضفة الغربية ليسوا عرباً، مسلمين كانوا أم مسيحيين، أو ليسوا جزءاً من الملايين الذين تتحدث عنهم جوليا بطرس.
وربما قصدت بالملايين سكان القمر والمريخ والزهرة والأكثر احتمالاً المشتري؛ لأن القضية قضية شرف وكرامة وإباء الملايين الذين ما زالوا في سبات عميق، وكأنهم من أصحاب الكهف.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة