العدوّان إردوغان والسّيسي.. من يتودّد إلى الآخر؟
بعد 3 أيام من موقف مماثل لوزير الخارجيّة مولود جاويش أوغلو، عبَّر وزير الدفاع خلوصي أكار، يوم السبت المنصرم، عن "ارتياحه لموقف القاهرة من رسم الحدود البحرية في الأبيض المتوسط"، وقال: "أبدت مصر احتراماً للجرف القاري الخاص بتركيا خلال مساعيها للبحث عن الغاز شرق الأبيض المتوسط، وهو ما نعتبره تطوراً مهماً جداً في العلاقات بين البلدين".
وكان الوزير جاويش أوغلو قد أشار في 3 آذار/مارس الجاري إلى "احترام مصر حدود الجرف القاري التركي"، وقال: "نحن على استعداد للتوقيع على اتفاقية لرسم الحدود البحرية مع مصر، كما فعلنا مع ليبيا". ورغم أنَّ القاهرة لم تعلّق بعد على التصريحات التركية، فإنَّ المعلومات تحدّثت عن وساطة قطرية قام بها وزير الخارجية محمد عبد الرحمن آل ثاني خلال لقائه نظيره المصري سامح شكري في القاهرة في 3 آذار/مارس الجاري أثناء اجتماعات المجلس الوزاري للجامعة العربية.
وناشد المجلس تركيا "سحب قواتها من سوريا وليبيا والعراق". وقد استنكرت الخارجية التركية البيان بشدة، وقالت: "إنّ أعضاء الجامعة العربية يدركون جيداً أن بعض هذه الدول يصرّ على اتهاماته المستهلكة ضد تركيا للتستر على أنشطتها التخريبية. وما على هذه الدول إلا إعطاء الأولوية لسلام شعوبها ورفاهيتها، والمساهمة البنّاءة في إرساء الأمن والاستقرار في المنطقة، بدلاً من استهداف تركيا بادّعاءات لا أساس لها من الصحّة".
يبدو أن هذا التطوّر المفاجئ في العلاقة المصريّة – التركيّة، مع رغبة القاهرة في معالجة مشكلة الإخوان المدعومين من إردوغان، أزعج أثينا، ودفع رئيس الوزراء ميجوتاكيس إلى الاتّصال بالرئيس المصري عبدالفتاح السّيسي الَّذي يعتبره إردوغان عدواً لدوداً له منذ أن أطاح بحليفه الاستراتيجي محمد مرسي في تموز/يوليو 2013.
وقد ردّ الرئيس التركي على هذا الاتّصال باتصال مرئيّ عاجل بنظيره الفرنسيّ ماكرون، الذي بات خلال السنوات الأخيرة من ألدّ أعدائه أيضاً، بسبب الموقف الفرنسي الداعم لليونان وقبرص في بحر إيجة والأبيض المتوسط، وبعد أن وقعت أنقرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 على اتفاقية رسم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق في طرابلس الليبية.
وكانت هذه الاتفاقيّة السبب الرئيسي لمجمل التطورات الأخيرة في ليبيا والأبيض المتوسط، إذ تدخلت أنقرة بعدها في ليبيا عسكرياً، وقامت بنقل الآلاف من المرتزقة السوريين إليها. وردَّت مصر على هذه الاتفاقية، أولاً، بالتنسيق العسكري مع فرنسا والإمارات وروسيا في ليبيا، ثم وقّعت في 6 آب/أغسطس العام الماضي على اتفاقيّة ترسيم الحدود البحرية مع اليونان، التي وقعت قبل ذلك بشهر على اتفاقية مماثلة مع إيطاليا.
الموقف التركي الجديد في "الانفتاح" على مصر والعودة إلى الحوار الإيجابي مع الرئيس ماكرون سبقته رسائل إيجابية بعثها الرئيس إردوغان إلى "إسرائيل" والعاهل السعودي سلمان، وهو ما يفسّر تهرّب أنقرة من التّعليق على التقرير الأميركيّ الخاصّ بجريمة جمال خاشقجي ورفض المحكمة في إسطنبول اعتماده دليلاً رسميّاً في اتهاماتها لولي العهد محمد بن سلمان.
وتحدّثت المعلومات قبل كلّ ذلك عن وساطة يقوم بها الرئيس الأذربيجاني إلهام عالييف بين تل أبيب وأنقرة، التي تنتظر نتائج الانتخابات الإسرائيلية في 21 الشهر الجاري للبدء بحوار مباشر مع الحكومة الجديدة، كما تحدثت المعلومات عن وساطة قطرية بين أنقرة والرياض بعد قمّة "العلا" في الخامس من كانون الثاني/يناير الماضي.
ومع انتظار المكالمة الهاتفيّة التي يترقَّبها إردوغان من الرئيس بايدن، والتي توقعت جين بساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، "أن تتم خلال الأسابيع والأشهر القادمة"، يبدو واضحاً أن أنقرة تحتاط لمجمل التطورات المستقبلية في المنطقة، مع استمرار الغموض الذي يخيّم على موقف الرئيس بايدن المحتمل في موضوع الاتفاق النووي مع إيران.
وترى بعض الأوساط القوميّة في مثل هذا الاحتمال تطوّراً قد يشكّل خطراً على الحسابات التركيّة في المنطقة، وخصوصاً الجارتين سوريا والعراق، اللتين ستتأثّران بشكل أو بآخر بالمصالحة الإيرانيّة مع أميركا والدّول الأوروبيّة التي تمتلك ما يكفي من الأسباب لتبقي علاقاتها السيئة مع الرئيس إردوغان، الَّذي يحاول بدوره التودّد إلى الغرب، من خلال ما أعلنه عن إصلاحات لم تحظَ باهتمام دول الاتحاد الأوروبيّ الّذي يدعم موقف العضوين اليونان وقبرص في ما يتعلَّق بخلافاتهما مع تركيا في الأبيض المتوسط وبحر إيجة.
وكانت هاتان الدولتان قد وقَّعتا خلال السنوات الأخيرة على العديد من اتفاقيات التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري مع مصر و"إسرائيل" (على انفراد)، في محاولة منهما لتضييق الحصار على إردوغان الَّذي اتخذ خلال الفترة الماضية مواقف عنيفة جداً ضد الرئيس السيسي، بسبب انقلابه على حكم الإخوان المسلمين، وعلى نتنياهو بسبب مواقفه من موضوع ضم القدس، بدعم من "حليف إردوغان الاستراتيجي" الرئيس ترامب.
وتبقى الأزمة السوريّة بعد احتمالات حلحلة الوضع في اليمن والسير قدماً على طريق المصالحة النهائية في ليبيا، وبتبنٍ أميركي وأوروبي، الموضوع الأساسي الذي يحدّد ملامح المرحلة القادمة في سياسات الرئيس إردوغان. وكان قد أكَّد أكثر من مرة "أنّه لن ينسحب من سوريا إلا إذا طلب الشّعب السوريّ منه ذلك"، وهو ما يعني استمرار موقفه التقليدي الرافض لأيّ حوار أو مصالحة مع الرئيس الأسد، حتى لا يقال عنه "إنّه هزم في سوريا".
وترى بعض الأوساط الدبلوماسية في "عقدة" إردوغان هذه مبرراً كافياً لتحركاته الأخيرة التي تهدف إلى منع أي مصالحة عربية مع دمشق، ما دامت الرياض والقاهرة والدوحة تلتقي معاً، ومعها عواصم خليجيّة وعربيّة أخرى، على الحد الأدنى من القواسم المشتركة، لمواجهة "المد الإيراني في سوريا ولبنان واليمن والعراق". ويحظى هذا الموقف "العربي" بتأييد تل أبيب، وحتى أنقرة، المنافس التاريخي والقومي والمذهبي لطهران في المنطقة، على الرّغم من التّنسيق معها في أستانا.
ويبقى الرهان الأكبر على موقف الرئيس بايدن المحتمل تجاه الأزمة السوريّة، مع المصالحة مع إيران أو من دونها، وعبر التّنسيق والتعاون مع روسيا أو من دونهما، وهو ما يراقبه الرئيس إردوغان عن كثب، كما يراقب الصّمت المطبق في البيت الأبيض ضدّه شخصياً، بعد أن تحدّثت المعلومات عن موقف أميركي متشدّد ضده في حال استمراره في سياساته الحالية خارجياً وداخلياً. وكانت هذه السياسات سبباً لاتهام بايدن له في نهاية العام 2019 "بالديكتاتوريّة"، وحديثه عن "ضرورة التخلّص منه ديمقراطياً، وبأسرع ما يمكن، من خلال دعم المعارضة".
وتتوقّع أوساط المعارضة للرئيس إردوغان أن يتجاهل كلام بايدن هذا، كما تجاهل الرسالة التي بعثها إليه الرئيس ترامب في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وهدّده فيها في حال اعتدائه على كرد سوريا، وقال له: "لا تكن غبياً". كما تتوقّع الأوساط المذكورة لإردوغان أن يستنفر كل إمكانياته إقليمياً ودولياً، بما في ذلك الانفتاح على دول المنطقة التي لا ينظر إليها بايدن نظرة إيجابيَّة، بسبب سجلّها في حقوق الإنسان، مثل مصر والسعودية والمغرب، ومعها "إسرائيل"، بسبب سياسات نتنياهو المتعنّتة.
وفي جميع الحالات، ستحمل الأيام القليلة القادمة مفاجآت مثيرة، ليس في الموقف التركي تجاه مصر والسعودية و"إسرائيل" فحسب، بل في مواقف الدول المذكورة تجاه الرئيس إردوغان أيضاً، الذي يريد لتحركاته الأخيرة أن تدعم موقفه، لا في مواجهة التطوّرات المحتملة بعد الاتفاق النووي أو من دونه فحسب، بل في مواجهاته الساخنة المحتملة مع الرئيس بايدن أيضاً، وفي حساباته الأكثر سخونة مع الرئيس بوتين في حال اتفاقه مع واشنطن. وترى المعارضة في حسابات إردوغان هذه هدفاً واحداً، وهو البقاء في السلطة، مهما كلّفه وكلّف تركيا.
والسّؤال الأهم: هل سيتخلّى الرئيس التركيّ في حال مصالحته مع مصر والسّعودية عن نهجه العقائديّ والقوميّ الذي تبنّاه بعد ما يُسمى بـ"الربيع العربي" بذكريات السّلطنة والخلافة العثمانية التي أوصلت المنطقة إلى ما وصلت إليه، فتحوَّل "الربيع" تارةً إلى شتاء قارس، وتارة أخرى إلى صيف قاتل"؟!
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً