استراتيجية إيران.. عوامل القوة بين الثابت والمتحرك!
تشهد المنطقة العربية منذ تولّي الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي مقاليد الحكم في طهران تحركات إيرانية نشطة وملحوظة في مسارات متعددة، وبطريقة مختلفة في التعامل مع مجمل الأحداث والملفات والقضايا على قدر حجمها وأهميتها وتعددها تجاه المنطقة والمحيط العربيين على وجه الخصوص، فهل هذه السياسة تعتبر تغييراً جوهرياً جديداً أم هي استمرار للسياسة الايرانية لكن بطريقة جديدة تنسجم مع مصلحة إيران أولاً ثم مع متغيرات جديدة طرأت على المشهد، خاصة بعد قدوم إدارة أميركية جديدة تنظر إلى مصالحها وتختلف عن سابقتها في التعامل مع الملفات المتعلقة بإيران والمنطقة العربية؟
تصريحات ومواقف إيرانية رفيعة صدرت مؤخراً عن الدولة الإيرانية بمختلف مستوياتها تجاه أحداث مهمة في المحيط والإقليم ، بدءاً من تصريحات للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي وصف تفجير مسجد في قندوز الأفغانية بالجريمة التي تهدف إلى تفرقة للمسلمين، إلى إصدار المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده بياناً يؤكد فيه أن إيران لا تتحمل وجوداً إسرائيلياً بالقرب من جغرافيتها، وصولاً لإعلان رئيس الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي أن إيران تمتلك أكثر من مئة وعشرين كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، والحراك الجاري في الملف النووي الإيراني، وانتهاءً بما يجري من محادثات إيرانية سعودية كُشف عنها مؤخراً جرت في بغداد.
كيف يمكن أن نقرأ كل هذا الحراك؟ مع وجود قيادة إيرانية جديدة ربما لها رؤيتها وطريقتها الخاصتين في التعامل مع مختلف ما ذكر، تطرح تساؤلات وتفسيرات حيال الخُطى الإيرانية وأهدافها، وفي أي إطار يمكن وضع مثل هذه التحركات تجاه المنطقة والاقليم، وهل تستطيع إيران تحقيق اختراقات في تلك الملفات أم أن الظروف ليست ناضجة بعد؟
موقف إيران الثابت من الإرهاب وما يقوم به داعش معروف وليس بالجديد، سواء كان في سوريا أم العراق، وحتى في أفغانستان، والموقف الثابت من هذه القضية هو ضرورة تأمين أمن مختلف القوميات وحياتهم وحقوقهم، والحفاظ على حقوق الشيعة خاصة، ومواجهة الإرهاب بكل أشكاله وأدواته وداعميه على قاعدة قطع الطريق التي تؤدي إلى إشعال بيئة النزعة أو الحرب الطائفية داخل الدول، وفي هذا الصدد جاء موقف الرئيس الإيراني تجاه ما جرى مؤخراً في أفغانستان.
حكومة الرئيس رئيسي بدأت حركة دبلوماسية غير مسبوقة في المنطقة العربية هي الأولى لحكومته منذ توليه منصب الرئاسة، بدأها وزير الخارجية الإيراني الجديد حسين أمير عبد اللهيان بزيارات وصفت بالاستكشافية لعدد من العواصم العربية.
اختيار الرئيس إبراهيم رئيسي لوزير خارجيته عبد اللهيان يعدّ اختياراً موفقاً للغاية في بيئة معقدة تعيشها إيران والمنطقة. والمتتبّع للشأن الإيراني يدرك أن مثل هذا الخيار يعدّ خياراً صائباً بالدرجة الأولى؛ فالوزير عبد اللهيان مختص في العلاقات الدولية ولديه من الخبرة والكفاءة العالية الكثير، وهو صاحب أفق عميق وله معرفة بحيثيات المنطقة بشكل مباشر، وليس بعيداً عن السياسة الخارجية لإيران منذ سنوات، والمهم أيضاً في شخصية الوزير عبد اللهيان هو حجم الاقتناعات المشبع بها من روح الثورة الإيرانية بشكل خاص، وهذا ما سيساعد على نجاح مهمته كوزير للخارجية الإيرانية.
استراتيجية إيران الخارجية ربما ينظر إليها البعض على أنها جديدة، لكنها عكس ذلك تماماً؛ فمنذ أن انطلقت الثورة الإيرانية، وإيران تؤكد أهمية العلاقات المتينة مع الدول العربية، لكن الحقيقة التي يجب أن تكون حاضرة لمن يثيره الاستغراب من هذا التحرك هو أن المنطقة أصبحت تنقسم إلى مشروعين، الأول مشروع أميركي، فيه أميركا ودول عربية بعينها، والثاني مشروع مقاومة تقوده وتدعمه إيران ومحورها عبر دعم المقاومة في فلسطين ولبنان، ومواجهة المشروع الإسرائيلي ورفض التمدد والتغوّل الأميركيّين في المنطقة.
الحقيقة هنا، والتي أودّ تأكيدها، هي أن الموقف الإيراني في السياسة الخارجية ثابت لم يتغير أو يتبدل، وهذا واضح في الخطاب الإيراني منذ أمد طويل، لكن الذي جرى بالتحديد هو وجود متغيرات جديدة طرأت في المنطقة، وهي أن المأزق الكبير الذي تمر فيه الولايات المتحدة والمتمثل في تعدّد جبهات الحرب التي أصبحت تهدّد وجودها على المستوى العالمي مقابل اتساع واضح في نفوذ الصين وروسيا، جعلها تختار الآن سياسة تبريد الجبهات كي تتفرغ للمواجهة الكبرى مع هذه الدول.
معروف أن إيران تمتلك القوة السياسية والعسكرية ولديها أوراق رابحة كثيرة في المنطقة، وتستطيع أن تفعل الكثير، وهي من تملك توازن القوى في مباحثاتها مع السعودية أو غيرها من الدول العربية، بل إننا نستطيع القول إن هناك تهافتاً دولياً يدعم محادثاتها واجراء توافقات معها، وارتفاع منسوب التقارب بين طهران ودول في المنطقة العربية يأتي انسجاماً مع جملة متغيّرات كثيرة طرأت وستطرأ.
الحدث الأبرز الذي طرأ مؤخراً في السياسة الخارجية الإيرانية هو ما كشفت عنه من لقاءات سرية جرت مؤخراً في العراق بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين، بُحثت خلالها ملفات عالقة بين الطرفين. ربما يقول البعض ما الذي يحدث؟ ولما هذا التحول بالانتقال من مرحلة المواجهة إلى مرحلة الحوار؟
هذا باعتقادي ليس بالتطور المستغرب أو الجديد، فالمتتبّع لمجريات المواقف الايرانية سيجد أن إيران قدمت مبادرات كثيرة لإنهاء الخلاف الإيراني السعودي، ولو عدنا بالذاكرة قليلاً فسنجد مبادرة الرئيس روحاني التي جاءت من على منصة الأمم المتحدة ودعا فيها إلى حوار مع السعودية.
سؤال يطرح نفسه في سياق آخر، ما الذي تغيّر؟ الذي تغيّر هو أن الولايات المتحدة الأميركية أعطت ضوءاً أخضر للسعودية للتقارب مع إيران، انطلاقاً من أن الأوراق في المنطقة أصبحت في غير مصلحة المشروع الأميركي بالمطلق، وبالتالي ما تريده الإدارة الأميركية في هذا التوقيت هو تبريد جبهات ساخنة كجبهة (السعودية اليمن)، انطلاقاً من الاقتناع الاميركي بأن الاستمرار في الجبهات الساخنة، سواء في اليمن أم في غيرها، سيُضرّ أكثر بالمشروع الأميركي أمام استحضار أولويات ووجود تحديات ما زالت قائمة.
بات واضحاً أن إيران تتعامل مع المشهد تجاه السعودية بذكاء وحنكة واضحين؛ فمعروف أنها تمتلك القوة العسكرية على الأرض، وتوظيف هذه القوة في محادثاتها مع السعودية يخدمها بدرجة كبيرة، وبالتالي هذه السياسة تضع السعودية في مسار لا يمكن التراجع عنه ويفحص مدى جديتها من عدمها من جهة أخرى في مسار الحوار، ويجعلها غير قادرة على استمرار مسار المواجهة العسكرية وغير العسكرية سواء في اليمن أم في لبنان.
أي تقارب إيراني سعودي ينجح في التوصل إلى حل أو ترتيب في العلاقات الثنائية سيسهّل للسعودية أولاً أن تكون مطمئنة أكثر في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني الذي حاولت شيطنته على مدار سنوات مضت بشكل مقصود، كذلك من حق إيران أن تضمن جملة من القضايا تُفسر أنها تنم عن حسن نيّات أوليّ يتثمل في وقف العدوان السعودي على اليمن بكل أشكاله، ونزع فتيل التوتر الطائفي الذي عزّزته السعودية بفعل سياستها، ووقف سياسة التحريض الممنهجة ضدها.
بهذه المنطلقات الأساسية، وفي حال تحقق شيء منها أو جميعها، يمكن القول إن هناك أفقاً لنجاح مسار الحوار الدائر والبعيد عن الأضواء بين الطرفين الإيراني والسعودي، وبالتالي هي فرصة يمكن أن تؤسّس لبيئة جديدة تنعكس على المنطقة بأسرها، رغم أن الوقائع على الأرض تقول إن الظروف معقدة والموضوع شائك أكثر ممّا يتصوّره البعض.
تبعاً للملفات التي تمّ استعراضها في استراتيجية إيران في المنطقة، علينا أن لا نغفل الانزعاج الإسرائيلي الواضح من نجاح الاستراتيجية الإيرانية الآخذة في التنامي وتحقيق الأهداف، والتي أصبحت تمثّل عامل قلق كبير للأوساط الإسرائيلية؛ فـ"إسرائيل" أصبحت تقرّ بشكل واضح بفشل سياستها وخسارتها أمام استراتيجية إيران السياسية والعسكرية التي تتبنّى عقيدة التطويق للمشروع الإسرائيلي، في تعبير واضح يعكس نجاح معادلة التحدي والردع الإيرانية، وتعزز هذه النتيجة تصريحات قائد عسكري كبير في الجيش الإسرائيلي، خلال المناورة الدولية الأخيرة تحت اسم "العلم الأزرق"، والذي قال بشكل واضح إن "إسرائيل" اليوم تعيش في بيئة شديدة التعقيد تتزايد فيها المخاطر والتهديدات على "إسرائيل" انطلاقاً من إيران واستراتيجيّتها وتهديد جبهات لبنان وسوريا وقطاع غزة. فلقد أصبحت "إسرائيل" تعيش حالة قلق دائم أمام تهديد المقاومة في قطاع غزة خلال معركة "سيف القدس"، وما فرضته من معادلة استراتيجية غير مسبوقة على "إسرائيل"، فضلاً عن اعتراف قائد الجبهة الداخلية الإسرائيلي بأن "إسرائي"ل اليوم أصبحت تتعرّض لتهديد واضح من حزب الله اللبناني، وأن الحزب قادر على إطلاق ألفي صاروخ يومياً تجاهها، كما أشار ضابط الاحتياط في جيش الاحتلال أن الصواريخ الدقيقة التي يمتلكها حزب الله هي إثبات آخر على فشل الاستراتيجية والردع الإسرائيليّين، وهذا كله يسجّل في سياق نجاحات استراتيجية إيران ومحورها في المنطقة.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.