حرب غزة.. الاستراتيجي والتكتيكي فيها وأهداف إدارة بايدن منها؟
تستمرّ الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة في شهرها الخامس، مع استمرار الدعم والغطاء الأميركي بمواصلة حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يمارس بحقّ الفلسطينيين، مع إبطال واشنطن كلّ محاولات إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف نهائي وشامل لإطلاق النار، كان آخرَها طلبٌ تقدّمت به دولة الجزائر الذي واجه فيتو أميركياً كالعادة.
لا شكّ في أن الحرب المستمرة على قطاع غزة هي حرب أميركية إسرائيلية مشتركة، أميركية القرار والغطاء والدعم إسرائيلية التنفيذ، حتى لو ظهر في محطاتها شيء من الخلاف أو التباين بين حين وآخر بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي على وجه الخصوص، فجوهر هذا الخلاف يكمن في التكتيكات لا الاستراتيجيات بين رؤى إدارة بايدن للمشهد ككل وأولويات "إسرائيل" من وراء استمرار الحرب.
فبينما تتجه رغبات نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب لأطول فترة ممكنة بهدف الحفاظ على وجوده في السلطة هروباً من المحاكمة والمحاسبة، تتجه أنظار إدارة بايدن لما هو استراتيجي أبعد وأوسع من ذلك نحو توظيف الحرب بهدف إعادة السيطرة على منطقة الشرق الأوسط مجدّداً، والتحكّم بها أكثر بما يضمن ضمان أمن "إسرائيل" بالدرجة الأولى، ودمجها في المنطقة العربية برمّتها وفق ترتيبات جديدة في إطار نظام عربي متواطئ يحمي "إسرائيل" ويصمت على جرائمها، ونظام إقليمي يمنحها حصانة ويقطع الطريق على النفوذ الصيني الروسي الإيراني المتصاعد من جهة أخرى.
ما أستخلصه بعد مئة وأربعين يوماً من حرب ضروس متواصلة بكل أشكالها وصورها في قطاع غزة، أن أي مشاريع مؤقتة لوقف إطلاق النار والحديث عن خلافات بين بايدن ونتنياهو، ما هي إلا مجرد أساليب من خداع وتضليل للحقيقة تسوّقها الإدارة الأميركية لغرض تحقيق أهداف خاصة بها، وعلى رأسها رؤيتها وترتيباتها كما أسلفت أولاً، ثم امتصاص حال الغضب المتصاعد وإرضاء المجتمع الأميركي الذي بات يعارض بشدة القتل والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، في وقت بدأ يزداد الصوت الرافض للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والمطالب في الوقت ذاته بوقفها بشكل كامل وفوري مع قرب الانتخابات الرئاسية الأميركية، بعد إدراك واشنطن أن الغطاء والدعم لهذه الحرب الوحشية والانحياز الكامل لـ "إسرائيل" قد أثّرت على شعبية الرئيس بايدن.
ثمّة عامل آخر ومهم في هذا السياق في المحاولة الأميركية لتمرير الخداع على الصعيد الدولي أيضاً ومحاولة تبريد منطقة البحر الأحمر، بعد التوتر المتصاعد وتضرّر حركة الملاحة العالمية نتيجة الضربات التي يشنّها الجيش اليميني على كلّ السفن التجارية المتوجّهة لـ "إسرائيل"، نصرة لفلسطين ورفضاً للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فما قام به الجيش اليميني حتى الآن شكّل حالاً من الصدمة والذهول لما تمتلكه البحرية اليمنية من سلاح استطاع أن يفرض نفسه في المعادلة، وزاد من حجم الضغط على أميركا و"تل أبيب" بشكل مباشر.
يعمل نتنياهو على شراء مزيد من الوقت ويدرك أنّ البديل هو السجن والمحاسبة، وكل ما يدور من قمم أمنية في باريس ومفاوضات لإبرام صفقة تبادل الأسرى هو أيضاً نوع آخر من الخداع والتضليل الإسرائيلي، فرغم الغطاء والدعم الأميركي الذي توفّر من إدارة الديمقراطيين في عهد الرئيس بايدن، إلا أنّ الرهان الأكبر الذي يستند إليه نتنياهو فهو إدراكه خسارة الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، ومجيء إدارة أميركية ترامبية يحوز منها على دعم أكبر من قوى اليمين المتطرّف في أميركا، وتنسجم أكثر مع عقلية ومخطّطات اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وتشكّل داعماً كبيراً لها في السيطرة وتحقيق مشروع "إسرائيل" في المنطقة.
حال التوافق الأميركي الإسرائيلي حيال ما يجري من قتل وتدمير في غزة كبير جداً، ومن يقول غير ذلك يعيش حالاً من الوهم، كيف لا وأميركا هي من منحت الضوء الأخضر لـ "جيش" الاحتلال الإسرائيلي لتدمير غزة وإبادتها وقتل أطفالها، وما زالت مستمرة في منح هذا الغطاء.
فأميركا تولي مسألة "الأمن القومي الإسرائيلي" أهمية كبيرة وبالغة، وهذا يعود إلى حقيقة العلاقات الأميركية الإسرائيلية الاستراتيجية المتينة التي لا تؤثّر فيها أيّ خلافات تكتيكية في إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو الإسرائيلي العربي من جهة أخرى.
العقلية الأميركية تجاه "إسرائيل" تنظر إلى المشهد من عين واحدة، وتقول إنه وبعد كل هذا الدعم العسكري والحشد الأوروبي لـ "إسرائيل" بشنّ الحرب على غزة لن تقبل تحت أي ظرف كان سيناريو الهزيمة في قطاع غزة، وهذا ترجم مؤخّراً في تصريحات لمسؤولين أميركيّين مثل كيربي، وآخرين إسرائيليّين مثل وزير أمن الاحتلال الإسرائيلي يؤاف غالانت الذي صرّح بوضوح أن "إسرائيل" لا تستطيع أن تعيش في منطقة الشرق الأوسط من دون انتصار.
الخلاف الحقيقي الوحيد بين أميركا و"إسرائيل" الذي يمكن ذكره في هذا السياق بعد فشل "إسرائيل" في تحقيق أيّ من أهدافها في قطاع غزة هو الخطة الإسرائيلية لليوم الثاني من الحرب، وهذا أكثر ما يؤرق الإدارة الأميركية ويخيفها من تأثير ذلك على سياستها في المنطقة نتيجة لمخططات حكومة نتنياهو تحديداً، إذ ترى إدارة بايدن أنه من غير المقبول عدم تقديم خطة تضمن الرؤية الإسرائيلية لمستقبل قطاع غزة، بما يضمن تحقيق صورة نصر لها وفق رؤيتها ومعتقداتها.
نحن اليوم أمام حقيقة تتجلى بأنّ أميركا لم تكن يوماً سوى عدو لشعوب المنطقة العربية، وهي تشكّل الوجه الآخر لمشروع "إسرائيل" وأطماعها، فهي الحامية الداعمة لها بكلّ ما أوتيت من قوة، وقرار بدء الحرب على غزة قبل مئة وأربعين يوماً كان قراراً أميركياً، وبالتالي إيقاف الحرب المسعورة على الفلسطينيين لا يحتاج أكثر من قرار أميركي جاد، ومشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يلزم "إسرائيل" بوقف تام لإطلاق النار يضمن وقف القتل والإبادة والتطهير العرقي الذي يمارس بحقّ الفلسطينيين بشكل تام وإدخال المساعدات الإغاثية للفلسطينيين.
الحروب الاستراتيجية لا تكسب بالتضليل والخداع، ومعيار النصر والهزيمة لا يحسب بالخسائر بل بالنتائج، فبعد مئة وأربعين يوماً من الحرب على قطاع غزة، أستطيع القول إن "إسرائيل" هزمت ولم تحقّق أهدافها وما زالت تتلقّى من ضربات المقاومة ما يؤكد الفشل في القضاء عليها، والأهم في هذا السياق أنّ "إسرائيل" لم تهزم وحدها بل هزم معها كل من دعمها وساندها وأيّدها، من دول مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا ودول أوربية أخرى، فقد أثبتت هذه الحرب أنّ المستعمرة التي يسمّونها "إسرائيل" ما هي إلا كيان هشّ لا يرتكز إلى أدنى مقوّمات القوة من دون دعم عسكري أميركي أوروبي. فـ "إسرائيل" في هذه الحرب على الصعيد الخارجي باتت في عزلة سياسية، أما على الصعيد الداخلي فتعيش أزمة اقتصادية غير مسبوقة وستبقى تعاني من تبعاتها لسنوات ولن تتعافي مما جرى لها بسهولة.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة