عام على "سيف القدس".. تحول استراتيجي في إدارة الصراع!
هذا العام تحل الذكرى الأولى لمعركة "سيف القدس" التي سجلت المقاومة الفلسطينية فيها أعظم تجليات المرحلة، وعبرت فيها عن وحدة الموقف الفلسطيني سياسياً وعسكرياً، بعد أن امتلكت ساعة الصفر لأول مرة في تاريخ الصراع مع "إسرائيل"، وسجلت أنها صاحبة الكلمة العليا، ورسخت معادلات جديدة كسرت فيها هيبة "إسرائيل"، وهشمت صورتها، وتأكّلت قوة الردع الإسرائيلية بصورة غير معهودة، وفرضت معادلة ردع عنوانها القدس محور الصراع وصاعق التفجير في المنطقة.
ملامح الصراع مع "إسرائيل" بعد عام من وقوع معركة "سيف القدس" باتت واضحة، إذ أيقنت قيادة الاحتلال بأنها لم تعد قادرة على خوض مغامرة جديدة بفاتورتها العالية، وأدركت أنه لم يعد بإمكانها تحقيق أي نصر أمام المقاومة الفلسطينية، أو حتى القدرة على استعادة هيبة الردع الإسرائيلي أو تحقيق أي من أهدافها.
في مفهوم النصر، كما سجله أبرز مفكري الاستراتيجيا العسكرية والسياسية، هناك توجّه فلسفي يربط مفهوم النصر بمدى تحقيق الأهداف المنشودة من الحرب أو المواجهة، إذ يرى كلاوزفيتس أن النصر في الحروب الكلاسيكية التي تُخاض من خلال جيش مقابل جيش، يتجسد في تحقيق 3 أهداف: الأول، احتلال أرض العدو، الثاني، تدمير جيش العدو كي لا يستطيع القتال، الثالث، كسر إرادة العدو القتالية حتى يتحقق خضوعه.
أما هنري كيسنجر، فيرى أن أسس النصر في الحروب غير التناظرية، أي جيش مقابل مجموعات فدائية، تتمثل بخوض الجيش النظامي حرب عصابات وإلحاق الهزيمة بالمجموعات الفدائية وسحقها وكسر إرادتها على الاستمرار في القتال.
في عملية جرد حساب لطبيعة علاقة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة مع "إسرائيل" بعد مرور عام على اندلاع معركة "سيف القدس"، لا بد من التوقف أمام مجموعة من الخلاصات المهمة، أبرزها:
- "سيف القدس" معركة بطولية استثنائية انسحبت نتائجها الفريدة والنوعية على طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي، بالمناسبة، معركة لم تنته بعد، وما زالت مفتوحة وبشكل أوسع.
استطاعت المقاومة تثبيت نتائجها هذا العام من دون إطلاق رصاصة واحدة، ومن إنجازاتها أنها نجحت في منع قيام المستوطنين من إحياء طقوس "ذبح القرابين" في باحات الأقصى وفض مسيرة الأعلام مرة أخرى، وحرص "إسرائيل" على عدم الوصول إلى مواجهة عسكرية جديدة مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
- خشية إسرائيلية ومخاوف كبيرة من تكرار سيناريو معركة "سيف القدس"، إذ ما زالت ذكراها وتداعياتها على المشهد يرعب "إسرائيل" وقيادتها ومجتمعها، بعد أن هيأت "إسرائيل" وروجت في الذهن العربي أنها قوة لا تقهر في المنطقة.
- تفشي الأزمة الوجودية في المجتمع الإسرائيلي بشكل غير مسبوق. وقد اتضحت نتائج هذا التفشي عبر الهجرة المعاكسة التي خلفتها معركة "سيف القدس" بشكل مباشر، إذ بيّن الاستطلاع الأخير الذي نشرته صحيفة "إسرائيل هيوم" أن نحو 69% من الإسرائيليين أصبحوا قلقين على مستقبلهم نتيجة اشتداد الصراع مع الفلسطينيين.
- تأكل قوة الردع الإسرائيلي وتضاؤلها بشكل كبير، إذ أصبحت المقاومة هي من يُثبت معادلة الردع ويُحدد ما سيكون وما لا يكون ومتى وكيف، وباتت "إسرائيل" تتراجع في أكثر من مرحلة في مدينة القدس، ولم تعد قادرة على إثبات أنها المسيطرة على المسجد الأقصى.
- أصبحت حكومة الاحتلال الإسرائيلي بزعامة بينيت تعيش أزمة ومأزقاً عميقين نتيجة معادلتين ترسختا:
• الأولى، نجاح المقاومة في تحقيق أهدافها قبل عام من الآن، وإفشال الأهداف الإسرائيلية وتكبيلها وجعل "إسرائيل" غير قادرة على الذهاب لأي حرب يمكن أن تُحقق فيها انتصاراً.
• الثانية، أصبحت حكومة الاحتلال أسيرة الجماعات الإسرائيلية الدينية المتطرفة التي تضغط بهدف تحقيق رغباتها ومخططاتها في المسجد الأقصى، وترسيخ التقسيم الزماني والمكاني فيه، في ظل حكومة إسرائيلية هشة قابلة للانهيار في أي لحظة.
- أوصلت معركة "سيف القدس" "إسرائيل" إلى مرحلة الخطر الذي يتهدد مستقبلها بعد 74 عاماً من احتلال فلسطين، بفقدانها الشعور بلحظة الوصول إلى الاستقلال التام والسيادة، وهي تصارع الشعب الفلسطيني الذي يرفض أن يتنازل عن أي من حقوقه ومقدساته.
- أصبحت حكومة بينيت الضعيفة تعيش أزمة سيطرة الجماعات الإسرائيلية المتطرفة على القرار السياسي الإسرائيلي والتحكم فيه والاستحواذ عليه، ما يعكس تنامي "الداعشية" في "المجتمع الإسرائيلي"، وهو ما سيدفع الأمور إلى مزيد من التفكك في ظل حالة التناحر والانقسام التي تعيشها "إسرائيل".
- المقاومة لدى الشعب الفلسطيني وانخراطها في "حلف القدس". وبعد مرور عام على معركة "سيف القدس"، باتت هذه المقاومة تعدّ الورقة الرابحة التي يمتلكها الشعب، وورقة ضغط قوية تشكل تهديداً حقيقياً لـ"إسرائيل"، انطلاقاً من اعتبارها جبهة مهمة إلى جانب جبهات حلف القدس.
- استطاعت معركة "سيف القدس" إحداث ضربات لمفاهيم ارتكز عليها الأمن القومي الإسرائيلي طيلة سنوات مضت، تمثلت بضرب مفهوم الردع، ومفهوم الحسم، ومفهوم الإنذار المبكر، ومفهوم حماية الجبهة الداخلية الإسرائيلية، والتي باءت جميعها بالفشل.
- باتت "إسرائيل" بعد عام من معركة "سيف القدس" تدرك أنها تعيش مأزقاً غير قابل للحل مع "حلف القدس" في المنطقة.
- أيقنت "إسرائيل" بأنه لا يمكنها بعد الآن حسم الصراع لصالحها بما يضمن توفير الأمن للمجتمع الإسرائيلي ومستوطنيها.
الخلاصة من ناحية الميزان الاستراتيجي أن معركة "سيف القدس" استطاعت الكشف عن تحول مهم في علاقة القوة بين "إسرائيل" من جهة، و "حلف القدس" والمقاومة من جهة أخرى. وما ميز هذه المعركة في توقيت اندلاعها وسياقها الاستراتيجي وقواعد الردع والاشتباك التي فرضتها أنها كشفت، وما زالت تكشف، جنوح "إسرائيل" نحو نظام تطرف ديني قائم على سياسة الإنكار والإحلال والعنصرية.
في المقابل، أوصلت الفلسطيني إلى نتيجة أنه أصبح بحاجة ماسة إلى درع وسيف للقدس كي يحميه ويحمي مقدساته من تغول التطرف الإسرائيلي.
السياق الاستراتيجي لمعركة "سيف القدس" أبرز حقيقة الصراع القائم في المنطقة على أساس أن المقاومة الفلسطينية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من "حلف القدس" وركناً أساسياً في محور المقاومة، وأن الصراع الأساسي قائم بين محورين: الأول، إسرائيلي تدعمه دول التطبيع، ويعمل لأجل التسليم للقوة الإسرائيلية في المنطقة، والثاني ركنه إيران ويضمّ دول محور المقاومة، وقطاع غزة أصبح جزءاً منه.
لعل من أهم تجليات معركة "سيف القدس" في ذكراها الأولى، فشل محور "إسرائيل" في إجبار محور المقاومة على التسليم بقوة "إسرائيل" في المنطقة. ولو عدنا إلى سنوات خلت، لوجدنا أن الصورة التي رسختها "إسرائيل" عن نفسها هشمتها المقاومة الإسلامية في لبنان عام 2006، وها هي المقاومة الفلسطينية تعيد الكرة مرة أخرى في 11 يوماً، لتثبت الحقيقة التاريخية أن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عصية على الكسر أو الهزيمة أو الاستسلام.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.