خطاب الحسم وتعرية مملكة الإرهاب!
تحدّث السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، في خطابه الأخير الذي ألقاه بمناسبة الذكرى الثانية لاستشهاد قائد "قوة القدس" في حرس الثورة الإيراني الفريق قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس، بلغة غير مسبوقة، ربما لم نعهدها من قبل، أحدثت ضجيجاً واسعاً، وتركت تداعيات كبيرة على المشهد اللبناني والمنطقة من جديد.
جرأة وتحدٍ يستحقان التوقف عندهما في خطاب السيد نصر الله. أطلَّ فيه بشجاعة القائد القوي الواثق الفاهم لمسار مصلحة بلده، وفصّل الحالة، وأوضح الرؤية، ووضع النقاط على الحروف، واستخدم لغة الحسم والقوة في موضعها وتوقيتها، فلا مكان للدبلوماسية أمام تجاوز الخطوط الحمر وتشويه صورة المقاومة الإسلامية ومسيرتها، لكنها الحقيقة المرة التي لا تروق لأعداء لبنان في المنطقة.
خطاب السيد نصر الله الذي اتخذ عدة مسارات كان واضحاً في تبيان المعادلات التي رُسمت في عهد سليماني والمهندس وما بعد استشهادهما، وكان كاشفاً وفاضحاً في التوقيت ذاته لدور أميركا و"إسرائيل" ودول خليجية مثل السعودية، والتي استُخدمت طيلة سنوات مضت في خدمة الأجندة الأميركية والإسرائيلية على حد سواء، بهدف تفتيت المنطقة والقضاء على محور المقاومة. أعطى خلاله توصيفاً دقيقاً للمشهد، سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان، وحتى فلسطين لم تغب. وما استوقفني فيه هو ردود الأفعال المهولة التي خرجت بعده، وربما السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي أزعج السعودية وأتباعها لإحداث كل هذا الضجيج؟
حتى أتحدث بموضوعية، ربما لم يكن السيد حسن نصر الله أول المتحدثين والفاضحين لدور الهمجية السعودية في المنطقة، ورعايتها الإرهاب بالمال، والدفع بالجماعات التكفيرية في العراق وسوريا، واستمرار حربها العبثية ضد الضعفاء في اليمن، تنفيذاً لمطالب أميركية، ناهيك بجرائم حقوق الإنسان وجريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي.
ولو عدنا إلى الوراء قليلاً، نجدنا أمام صحف عالمية كبرى فضحت السعودية في عهد ابن سلمان ووصفته بـ"الممول الأول للإرهاب"، مثل صحيفتي "لوموند" الفرنسية و"نيويورك تايمز"، اللتين فضحتا مسيرته إبان توليه ولاية العهد في السعودية، ناهيك بالعبث بمسارات أخرى، ومحاولات الدفع إلى خلط الأوراق في الساحة اللبنانية مراراً وتكراراً، واستخدام برامج إسرائيلية للتجسس على قادة ومسؤولين لبنانيين، فضلاً عما كشفته "ويكيليس" في تشرين الأول/أكتوبر 2021 عن أبرز أذرع ابن سلمان لتنفيذ ما يعرف بـ"المهام القذرة الأخلاقية والمالية" وجرائم القتل وبث الفساد، ولكن، وأمام كل هذه الفضائح التي باتت تعلمها أوساط عالمية، لم نسمع صوتاً سعودياً واحداً يشنّ هجوماً كهذا!
إنها مفارقة عجيبة، لكن يبدو أنَّ القضية ليست كما أثارها أمراء آل سعود بعد انتهاء خطاب السيد نصر الله، الَّذي سمى الأمور بمسمياتها من دون مواربة أو تجميل. ولو عدنا قليلاً إلى الوراء في الأزمة التي اصطنعت بعد تصريحات وزير الإعلام اللبناني المستقيل جورج قرداحي، لوجدنا أنها كانت توظيفاً سعودياً واستغلالاً للتغطية على ما كشفه سعد الجبري عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ورغبته في قتل الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، من خلال خاتم سامّ حصل عليه من روسيا، وهو ما يفسر أنَّ كلَّ ما نسمعه من سياسة الاستئساد السعودية على لبنان هدفها السيطرة على الدولة والعبث بمكوناتها، كما فعلت في العراق وسوريا، والابتزاز والعلو هما سيدا الموقف في التعامل مع لبنان.
الحقيقة التي تسعى إليها السعودية ليست قضية استقالة وزير أو تصريح هنا أو هناك. المسألة أكبر من ذلك بكثير. هي لا تستطيع أن تتحمل حزب الله كمكوّن أساسي في لبنان، لأسباب كثيرة، أهمها نجاح حزب الله في التصدي للمشروع الأميركي الذي موّلته السعودية ورعته في عدة دول في المنطقة، مثل العراق وسوريا واليمن، وإفشاله، والتصدي أيضاً لمحاولاتها للعبث في لبنان.
إنَّ اللغة الحادة التي أطلَّ بها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لم تأتِ من فراغ، إنما جاءت كرسالة تحذير أخيرة للسّعودية، وأرجّح، وبقوّة، أن يكون لدى حزب الله معطيات جدّية لم يكشف عنها بعد بأن النظام السعودي في إصراره على سياسة الابتزاز والاشتراطات، إنما يهيئ لقلب الطاولة على حزب الله وتحويل لبنان إلى ساحة من الفوضى، كما فعل في العراق وسوريا.
الثابت الذي أؤكّده هو أن حزب الله ليس إرهابياً، ولن يكون كذلك في أيِّ يوم من الأيام. ومن يعتقد بعكس ذلك فهو أعمى البصر والبصيرة، واستمرار شيطنة الحزب عبر خطابات من أعلى الهرم الحاكم في السعودية (الملك سلمان) يتساوق مع الرواية الإسرائيلية والأميركية في الدرجة الأولى، ويؤكد التبعية المطلقة لأميركا. الحقيقة مرّة، لكنها لا تعجب من يصر على خدمة مصالح أميركا و"إسرائيل" ورعاية الإرهاب في الدول العربية وتمويله.
"حزب الله" حركة مقاومة إسلامية لبنانية لها قاعدة جماهيرية عريضة، وُجدت لأجل الدفاع عن شرف لبنان وكرامته وأرضه. دخل الحزب الحلبة السياسية اللبنانية عبر صندوق الاقتراع، وكان سلاحه موجهاً نحو "إسرائيل"، وهو أول من سجل انتصارات عسكرية ضد "إسرائيل" في العامين 2000 و2006، وتمكَّن من طرد الاحتلال من الجنوب اللبناني، وله تمثيل شرعي في المؤسَّسة البرلمانية والحكومة، ومن الإجحاف الكبير وصمه بالإرهاب من دولة عربية مثل السعودية. والمستغرب في المشهد اللبناني هو صمت مسؤولين لبنانيين كبار عما صدر من السعودية تجاه الحزب في خطاب الملك السعودي قبل أيام.
وكما قال الأمين العام لحزب الله في خطابة الأخير، إنَّ الشهيد والعدو لا يستويان. أيضاً، إنَّ حزب الله كمقاومة إسلامية لها مواقف أصيلة تجاه دعم القضية الفلسطينية والمقاومة، لا يمكن أن يلتقي أو يتساوى مع دولة مثل السعودية، التي انساقت وراء السياسة الأميركية والإسرائيلية وخضعت لها، وموّلت الإرهاب ورعته في العراق وسوريا، ودعمت التطبيع مع "إسرائيل"، وهي تسوّق له عبر قطاعات مختلفة، وتهيئ الظروف للإعلان عنه في اللحظة المؤاتية.
وقد فتحت شوارعها للحاخامات الإسرائيليين للرقص فيها، ناهيك ببيعها القضية الفلسطينية ودعم "صفقة القرن" واعتقال فلسطينيين وأردنيين في سجونها ومحاكمة من دعموا المقاومة الفلسطينية، أبرزهم ممثل حركة "حماس" في المملكة سابقاً، المهندس محمد الخضري، ونجله، كما أنها لم توجّه سلاحها يوماً تجاه "إسرائيل"، على عكس حزب الله الَّذي خاض حروباً لتحرير أرض لبنان ودعم المقاومة الفلسطينية بكل أشكال الدعم.
إنَّ لبنان يمر بظروف اقتصادية صعبة، وهذا ليس سراً، ومن يرغب في مساعدته عليه الكفّ عن سياسة الابتزاز القائمة، فمثل هذه الأساليب لا تصدر عن دول تسمّي نفسها دولاً كبيرة. إنه أسلوب عصابات ارتضته المملكة لنفسها في عهد محمد بن سلمان، وارتضت بأن تكون أداة في يد أميركا و"إسرائيل"، كما أنَّ لغة الاشتراطات التي أصبحت واضحة في الخطاب السعودي بضرورة إقصاء حزب الله عن المشهد اللبناني واتهامه بالإرهاب لأجل مساعدة لبنان، لا تجوز للسعودية بأيِّ حال من الأحوال، فهذا المنطق غير مقبول بالمطلق، فحزب الله مكوّن رئيسي من الشعب اللبناني، وأنشطته محصورة في محاربة "إسرائيل"، ودعم المقاومة الفلسطينية، وإجهاض مشاريع وخطط الجماعات التكفيرية التي رعتها السعودية في المنطقة.
السيد نصرالله تحدث في ذكرى استشهاد القائد قاسم سليماني الذي استطاعت مسيرته أن تحقق نجاحات في وأد مشروع أميركا في المنطقة. سليماني نهج باقٍ. وقد أصبح يمثّل أيقونة ورمزاً يسجل لمحور المقاومة في المحافظة عليه، وبات عامل قلق لأميركا و"إسرائيل"، والسعودية خلفهما، حتى بعد اغتياله.
إن مضي إيران ومحورها في النهج ذاته يؤكد صحة المسيرة والمسار، فلطالما كان سليماني يؤمن بأن المشروع الأميركي يجب أن يواجه بمحور مقاومة إسلامي عربي، ولطالما شكل شوكة في خاصرة أميركا في حياته. لقد قاتل على كل جبهات القتال، وأسس اغتياله لمرحلة جديدة من الصراع. نهجه باقٍ ومستمر، وإنجازاته تؤسّس لانتصارات كبيرة، ودماؤه تعبّد الطريق نحو المعركة الفاصلة لطرد الاحتلال من فلسطين وإنهاء الأطماع الأميركية والإسرائيلية ولجم العنجهية السعودية التي فاقت حدود العقل والمنطق. رحم الله سليماني والمهندس. يرحلون ويبقى النهج والأثر.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.