غزة وخطة الرئيس ترامب..كيف تحوّلت إلى مأزق استراتيجي؟
يعيش قطاع غزة مرحلة هي الأصعب في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وفي ظل الحديث عن حراك دولي مستمر وقرب الدخول في المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تقف غزة أمام منعطف خطير ومعادلة هي الأكثر حساسية، بين شروط الميدان والمراكمة والمحافظة على استراتيجية الردع وبين ضغوط السياسة ومحاولات الإخضاع. ورغم صعوبة المعادلة، تطرح غزة سؤالاً كبيراً وصعباً، هل ما زال في هذا العالم شيء من العدالة والإنصاف؟
ثمة منطق تاريخي مهم سأنطلق منه في إظهار حق الشعوب التي ترزح تحت الاحتلال وحقها المشروع في ممارسة المقاومة وفق كل القوانين والشرائع الدولية، وحقها في نيل الحرية والاستقلال. لكن، وأمام كل ما يجري، بتنا نعيش في عالم لا يعرف معنى العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، فالشعب الفلسطيني وتاريخه النضالي ليس معزولاً عن سياق تاريخي مليء بالخذلان الدولي إلا ما ندر من حركات مقاومة عربية إسلامية ساندته ودفعت الدماء والغالي والنفيس في سبيل إسناده كقضية عقائدية لا سياسية، وأخصّ بالذكر مساندة حزب الله، المقاومة الإسلامية في لبنان، على وجه التحديد، وأخرى في اليمن تمثلت بالقوات المسلحة.
غزة اليوم تحوّلت من ساحة مواجهة عسكرية بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل" إلى مسرح دولي وصراع استراتيجي مفتوح، بين قوى دولية وأخرى عربية، مسرح تختبر فيه فاعلية الردع على مدار عامين كاملين من الحرب، وبين قدرة السياسة على فرض وقائع على الأرض، وإذا أردنا توصيف ما يجري الآن بعد كل هذه الفاتورة التي دفعها الشعب الفلسطيني على مدار حرب الإبادة، أعتقد أن التوصيف الأقرب هو صراع على النتيجة النهائية لهذه الحرب التي لم تحسم بعد بشكل نهائي، من يفرض شروطه في النهاية، ومن يكتب سردية تاريخية لمرحلة ما بعد الحرب.
قطاع غزة يعيش لحظة يخوض فيها معركة إرادات غير متكافئة، في وقت تعمل "إسرائيل" على كسر هذه الإرادة وحسم المعركة استراتيجياً لصالحها، والمدقق في الاستراتيجية الإسرائيلية الآنية يدرك أنها قائمة على مبدأ جوهري يعتمد على إخضاع البيئة الحاضنة للمقاومة بدلاً من هزيمتها، وهنا علينا ألا ننسى أن الهدف الأساسي من وراء كل هذه الاستراتيجية هو التغيير بعد إحداث كيّ وعي إثر سياسة مقصودة من القصف والحصار وتدمير البنية التحتية المدنية على مدار عامين، فكل هذا لا يندرج في سياق التكتيك الإسرائيلي وإنما شكل أدوات ضغط محسوبة بدقة تهدف إلى نقل الكلفة من مستوى عسكري يتعلق بالمقاومة الفلسطينية إلى مستوى اجتماعي له ما بعده في تحقيق أهداف اليمين الإسرائيلي المتطرف. والسؤال هنا، هل أحدثت فعلاً هذه الاستراتيجية نتيجة لما يريده نتنياهو وفريقه على صعيد فرض الاستسلام على الفلسطينيين أو تحقيق مخطط التهجير وفرض معادلة ردع جديدة؟ في قراءة الواقع في غزة وتشخيصه، صحيح هناك معاناة إنسانية كبيرة يشهد عليها العالم أجمع، لكن رغم شدّتها لم تنتج حتى الآن واقعاً يحقق لـ"إسرائيل" ما تريده، إذ لم نر استسلاماً ولا تفككاً اجتماعياً ولا حتى انهياراً في أداء المقاومة، عسكرياً وسياسياً.
إذا ما أردنا تشخيص الحالة الفلسطينية الآنية من منظور استراتيجي أعمق، فالمقاومة في غزة تدير معركة غير متكافئة وفق منطق الردع الممكن، وهي تدرك أن تحقيق تفوق عسكري بعد عامين من حرب الإبادة أمر ليس سهلاً، لكنها تسعى سياسياً إلى منع "إسرائيل" من تحقيق نصر سياسي أو مطلق كما يريد نتنياهو، فاستمرار القدرة على القتال والحفاظ على الحد الأدنى من المبادرة يفرضان على المشهد معادلة مفادها أن كلفة الإخضاع أعلى من كلفة الاحتواء، وهذا يفسر طول أمد المواجهة سواء ارتفعت حدتها في أوقات وانخفضت في أوقات أخرى لظروف سياسية.
هنا، على الجانب الآخر من الصورة، يكثر الحديث بين أوساط سياسية عربية ودولية عن نزع سلاح المقاومة في غزة كمشروع لإعادة هندسة المشهد السياسي الفلسطيني، وتكرار الحديث هذا ليس بالجديد لكن تزيد حدته بعد كل مواجهة مع "إسرائيل"، والأهم أن هذا المطلب الإسرائيلي يندرج في سياق أمني بالدرجة الأولى وليس سياسياً.
تاريخياً، وفي تجارب سابقة، لم يؤد نزع السلاح إلى تسويات عادلة بل إلى فراغ تستغله "إسرائيل" لفرض هيمنتها و سياسات توسعية ومخططات استيطانية على الأرض، وعلينا أن نستحضر نموذج منظمة التحرير الفلسطينية وكيف تعاملت "إسرائيل" مع أوسلو، وقضت على حلم الدولة الفلسطينية بسياسات الاستيطان والضمّ والتهويد، إذا اعتبرنا أن أوسلو ستحقق يوماً حلماً ما للفلسطيني، لذلك تعتبر المقاومة الفلسطينية قضية السلاح في حساباتها الاستراتيجية أداة بقاء سياسي قبل أن يكون أداة ووسيلة مقاومة، وبالتالي تصبح النتيجة أن أي حديث عن نزعه أو تسليمه من دون أفق سياسي واضح يضمن حقوق الفلسطينيين مقامرة وجودية وخطأ استراتيجياً.
ما يجري في قطاع غزة بمفاعيله والحديث عنه في هذه الأوقات وصل إلى حدّ كشف مستوى الصدمة الأخلاقية الدولية، خصوصاً بعد الاستخدام المفرط للقوة الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين وارتكاب جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي، وحصار شامل وتجويع ممنهج، كل هذا كشف عجز النظام الدولي عن الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وهذا الانكشاف لم يضع الاحتلال وحده في موضع المتهم بل ويطال كل المنظومة العربية والإسلامية والدولية التي وقفت متفرجة، وجزء منها وفّر غطاءً سياسياً وعسكرياً لاستمرار الجريمة بحق الإنسانية، ما حوّل غزة إلى ساحة اختبار لمصداقية العرب والغرب في آن واحد.
في الفكر والتحليل الاستراتيجي، الواقع في قطاع غزة أمام معادلة أنتجت واقعاً جديداً لكنه بالغ التعقيد والخطورة، الاحتلال الإسرائيلي عالق وهو غير قادر على تحقيق الحسم والنصر المطلق بعد أن أفرجت المقاومة عن الأسرى بصفقة وشروط لا بالقوة العسكرية وهذا فشل بحدّ ذاته، ولا حتى مفرزات الحرب جعلت المقاومة قادرة على إنهاء كامل للحرب بشروطها، وهذا ما يطرح سؤالاً جوهرياً، ما الحل؟
في تقديري، الواقع في غزة يمر بمرحلة من الجمود الاستراتيجي، لكن هذا الجمود قد يفتح الباب أمام واقع جديد عنوانه إدارة الصراع لا حلّه، في ظل غياب مشروع فلسطيني موحد حتى اللحظة، وتراجع الدور العربي الفاعل باستثناء مصر وقطر وتركيا كوسطاء في المشهد السياسي، وبالتالي يصبح الصمود خياراً أوحد لأن البديل هو الاستسلام، ومثل هذا الخيار غير موجود في القاموس النضالي الفلسطيني.
ثمة سؤال يطرح نفسه، أي سيناريوهات يفرزها المشهد للمرحلة المقبلة في قطاع غزة، وهل يمكن أن تنجح خطة الرئيس ترامب إلى النهاية؟
أمام الواقع المعقد وما أفرزته حرب الإبادة على مدار عامين، جاءت خطة الرئيس ترامب كما نعلم، وطبقت المرحلة الأولى منها، وكمراقب على الساحة الفلسطينية، التزمت المقاومة الفلسطينية التزاماً حديدياً بها يتجاوز ما نسبته 99٪، في المقابل، شهدت خروقات إسرائيلية متكررة، هذه الخروقات لا يمكن التغافل عنها، ولها دلالات وسياقات مكشوفة، وأمام ما يتداول عن المرحلة الثانية بوصفها تحويل نتيجة الحرب إلى مكاسب سياسية دائمة، لا تنطلق هذه المقاربة من البحث عن تسوية عادلة، بل من تثبيت وقائع جديدة تخفف كلفة الصراع على "إسرائيل"، وتعيد ضبط غزة ضمن معادلة الاستقرار المؤقت لا الحل الجذري التاريخي، هذا هو الواقع باختصار، وبالتالي إذا أردت وضع سيناريوهات للمرحلة المقبلة فستكون على النحو الآتي.
السيناريو الأول: يرتكز على تكثيف الضغوط وتجديد الحصار لنزع السلاح مقابل ترتيبات أمنية وسياسية جديدة محدودة تشارك فيها أطراف فلسطينية وإقليمية، وجوهر هذا السيناريو سيكون قائم على تحويل غزة إلى منطقة منزوعة القدرة السياسية تعيش على الإغاثة والمساعدات الشحيحة من دون أفق سياسي واضح ذات سيادة، إلا أن مثل هذا السيناريو سيصطدم بواقع مفاده أن السلاح ليس تفصيلاً يمكن السيطرة عليه بسهولة، بل هو عنصر توازن وردع ونزعه من دون حل سياسي شامل سيكون خطوة عبثية لن تنتج استقراراً، بل انفجاراً مؤجلاً.
السيناريو الثاني: الحديث عن هدنة طويلة الأمد كمسار يمكن البناء عليها، مقابل تخفيف الحصار وضمانات دولية، والهدف هنا ليس إنهاء الصراع بل تجميده وإدارته بكلفة سياسية أقل، ومثل هذا السيناريو ينتج واقعاً واستقراراً هشاً، سيكون قابلاً للانهيار عند أول اختبار ويعيد إنتاج الحصار بأدوات أقل حدة، مع نقل الصراع من سياسة الضغط العسكري إلى الضغط الاجتماعي والاقتصادي في آن واحد.
السيناريو الثالث: إحداث تغيير في البنية القيادية الفلسطينية عبر إضعاف المقاومة سياسياً وإعادة تدوير السلطة الفلسطينية أو إنتاج بديل مقبول دولياً، أي بمعنى أدق إعادة هندسة القيادة السياسية الفلسطينية، وهذا التطلع هو امتداد لرؤية أميركية ليست بالجديدة تبحث عن شريك فلسطيني قابل للإدارة لا عن شريك وصاحب قرار فلسطيني مستقل، لكن مثل هذا السيناريو فيه خطورة كبيرة إذ يتجاوز الوزن الشعبي للمقاومة ويفرض كياناً سياسياً هشاً يعتمد على القوة الخارجية للبقاء وسبل نجاحه ضئيلة.
السيناريو الرابع/ حال فشل الخيارات والمسارات، يبقى مسار التصعيد الإقليمي مضبوط الإيقاع حاضراً كوسيلة ضغط لا حرب شاملة ولا استقرار، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر أدوات الردع والتهديد، أو حصار مستمر واستنزاف طويل بهدف تحقيق منجز يتمثل في إعادة رسم قواعد الاشتباك وفرض تنازلات متزامنة مع كل من يتبنى المقاومة نهجاً، وهذا سيناريو محفوف بالمخاطر أهمها مخاطر الانزلاق إلى مواجهة أوسع لكنه يستخدم كأداة ابتزاز استراتيجية أكثر منه خياراً مفضلاً لدى أميركا والقوى الدولية، وهو السيناريو الأخطر على غزة لأنه يحوّل المعاناة إلى حالة دائمة.
السيناريو الأخير: الرغبة الأميركية في إنجاح خطة الرئيس ترامب وقناعة جميع الأطراف استحالة نزع السلاح بالقوة، هو إعادة صياغة المشهد في غزة يكون فيه دور أقل علنية لحماس والمقاومة، تتصدر المشهد حكومة تكنوقراط بإشراف إقليمي، من دون نزع جذري كامل للسلاح، ربما ينظر إليه البعض أنه سيناريو صعب، لكنه ليس مستحيلاً حال توفرت إرادة وفرض على "إسرائيل".
قطاع غزة تحوّل إلى مأزق استراتيجي ليس أمام الفلسطيني وإنما أمام كل القوى الدولية وعلى رأسها أميركا، صحيح أنه صغير بجغرافيته لكنه كبير في تأثيره ومركزه، وكل ما يجري الحديث عنه لا يحدد مستقبل المقاومة فحسب، بل سيحدد ملامح وشكل الصراع الفلسطيني بأكمله، فالرهان الدولي على هزيمة المقاومة فشل، والرهان على كسر إرادة الفلسطيني أيضاً ثبت فشله، وكذلك الرهان على إدارة الصراع من دون معالجة من الجذور سجل فشلاً كبيراً ورهاناً خاسراً، وليس خطة الرئيس ترامب وحدها محل إنقاذ، حتى لو جيء بعشرات الخطط ما لم تقدم حلولاً جذرية وما دامت تتجاهل جوهر القضية يبقيها في مأزق إدارة الصراع لا حله، وكما يقال في معركة الإرادات، فنتيجة عامين كاملين من الحرب لم تستطع "إسرائيل" هزيمة الشعب الفلسطيني وهذا بحد ذاته معادلة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها في أي حسابات مستقبلية مهما تغيرت الخطط وتبدلت العناوين والظروف، وحتى ذلك الحين، ستبقى غزة الامتحان الأصعب والمأزق الاستراتيجي لكل القوى الدولية والمرآة التي تعكس فشل الإرادة الدولية والقوة العسكرية الإسرائيلية حين تواجه إرادة البقاء الفلسطيني صاحب الأرض والقضية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً