السلام المفروض على غزة.. قراءة في وهم ما بعد الحرب!
ليس أخطر على غزة من وقع القنابل والصواريخ التي سقطت عليها على مدار عامين من الحرب، إلا اللغة التي يجري الحديث عنها في كلّ إطلالة للرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام شاشات التلفزة وافتخاره بخطّته للسلام في قطاع غزة، في وقت تتواصل فيه الاغتيالات والقتل والانتهاكات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار، الذي وقّع في شرم الشيخ في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بشكل شبه يومي.
فحين توقّف القصف عن غزة بشكل جزئي، بدأت حرب من نوع آخر، حرب الخرائط والمعابر وإعادة الإعمار من جهة، وحرب ما يسمّى بمجلس السلام والقوة الدولية واليوم التالي والحكم الجديد من جهة أخرى، وبين هذا وذاك تسير الأوضاع كما السلحفاة، وعود بإنهاء المعاناة ومحاولة لإعادة تدوير المشهد من جديد، أما "إسرائيل" فتعمل على إعادة فرض معادلة القوة والتفوّق العسكري ونقل نموذج لبنان إلى غزة والهدف التهرّب من استحقاقات المرحلة.
كلّ ما نسمع عنه يمكن أن يصنّف على أنه حقول ألغام يراد منها تثبيت نتائج فشل وعجز لم يجرؤ أحد على إعلانه، وتحويل تضحيات وصمود شعب بأكمله إلى مشاريع دوليّة نسب نجاحها ضئيلة في وقت لم يشعر فيه الفلسطيني بعد لا بالأمن ولا بالسلام، وهو ما يفرض سؤالاً جوهرياً بين تطوّرات الميدان المتلاحقة والمشهد السياسي، هل فعلاً الفلسطيني في قطاع غزة أمام سلام حقيقي أم أمام وهم جديد يراد منه إنقاذ المنظومة الدولية من اعتراف مؤلم بالفشل والانحياز، وأنّ غزة رغم كلّ ما عاشته وتعيشه خلال عامين لم تهزم ولم ترفع الراية، وأنها ما زالت تملك حقّ الرفض، في توقيت بالغ الحساسية.
الحديث عن مجلس للسلام وقوة دولية في قطاع غزة أصبحت عناوين النقاش على المستوى الدولي يتجاوز حدودها الجغرافية الضيّقة، ومع كلّ تصريح يطلّ به الرئيس ترامب للحديث عن مجلس سلام خاصّ بقطاع غزة يكشف فيه حجم المأزق الذي وصلت إليه المنظومة الدولية بعد حرب طويلة فشلت فيها "إسرائيل" كقوّة عسكرية في تحقيق أهدافها أو فرض حلولها بالقوة ذاتها، فاضطرّت ومعها واشنطن وعواصم عربية مؤثّرة في المنطقة للبحث عن مخارج سياسية تعيد ضبط المشهد من جديد.
أما غزة التي اعتادت الأطراف التعامل معها طيلة السنوات الماضية على أنها ملف أمني إنساني خالص، تفرض نفسها اليوم كعقدة مركزية أمام واشنطن وكلّ الأطراف الدولية المعنية، وتعيد طرح سؤال جوهري، من يملك حقّ تقرير مصيرها وبأيّ أدوات وعلى حساب من؟ كلّها أسئلة من الجدير التعمّق بها.
الخطة التي يجري الحديث عنها تقوم على أساس اتفاق انسحاب إسرائيلي من القطاع مقابل خروج حماس من السلطة بشكل كامل، وإنشاء حكم جديد تديره قوة دولية، يكون فيه الرئيس ترامب في القمّة ويضمّ معه مجلساً من دول مانحة، ويعمل تحت إمرته مجلس تنفيذي يشرف على مرحلة انتقالية، فيما تعمل داخل غزة حكومة فلسطينية من التكنوقراط.
الخطة تتضمّن إنشاء قوة استقرار دولية لمنع الاعتداءات وضبط الأمن مع احتمالية مشاركة قوات تركية وبمشاركة قوات فلسطينية، والهدف من هذه الخطة طرحها على حماس و"إسرائيل" حزمة واحدة، لكنّ السؤال الأهم الذي يبقى كيف سيستقبل الفلسطيني هذا الشكل من الإدارة وهل ستسمح الأطراف السياسية به.
علينا أن ننطلق هنا من مسألة في غاية الأهمية، أنّ غزة في حربها مع "إسرائيل" على مدار عامين أربكت كلّ الخرائط الكبرى في المنطقة، وحين يكرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب حديثه عن خطته للسلام وما فيها من تفاصيل وفروع، فلا بدّ أن نتوقّف أمام هذه المفارقة، كيف لغزة البقعة الجغرافية المحاصرة منذ سنوات والمدمّرة بفعل حرب الإبادة الجماعية أن تستدعي كلّ هذا الزخم من الرؤساء والمسؤولين.
هذه المشهدية تعطينا إجابة صريحة لا تأويل فيها، غزة لم تعد ملفاً إنسانياً هامشياً كما اعتقد البعض، يتمّ إسكاته بحلول ترقيعية مؤقتة ولا قضية إغاثية بحاجة للمال مقابل الهدوء والانكفاء على نفسها، ولا حتى بعد السابع من أكتوبر وبعد مرور عامين من الحرب بفعل صمودها وتضحياتها هي كذلك، بل تحوّلت إلى مركز وثقل سياسي يعيد تشكيل المسرح الدولي ويخرج واشنطن وكلّ القوى الدولية المصطفة خلفها ويكشف زيفها وانحيازها لـ "إسرائيل" القائم على موازين القوة فقط.
الإعلان عن مجلس سلام لغزة كما نصّت خطة الرئيس ترامب، لا يأتي من فراغ، ولا من صحوة ضمير إنساني دولي، بل من مأزق عميق تعيشه المنظومة الدولية بأسرها، وعلى رأسها إدارة الرئيس ترامب نفسها، بعد أن فشلت آلة الحرب والإبادة في تركيع شعب أو كسر مقاومته، وبعد أن تحوّلت غزة إلى مرآة كاشفة لعجز القوة المفرطة في تحقيق الأهداف، وثبت عملياً أنّ التفوّق العسكري لن ينجح في حسم الحرب ومعه سقطت الرواية الإسرائيلية أخلاقياً أمام شعوب العالم فباتت "إسرائيل" تعيش العزلة الدولية واقعاً وحقيقة.
اعتقدت كثير من الأطراف أنّ غزة منطقة هامشية، ونظرت إليها "إسرائيل" على أنها بقعة جغرافية يسكنها اللاجئون الفلسطينيون ينصبون العداء لـ "إسرائيل"، وفشلت السياسة الإسرائيلية على مدار تاريخ الصراع من إيجاد استراتيجية ناجحة ومناسبة يمكن من خلالها حلّ معضلة قطاع غزة، وهذه هي عقدة العقل الإسرائيلي الأمني والسياسي، صحيح أنها باتت مدينة اللاجئين لكنّ المقاومة متجذّرة فيها في الوعي الجمعي الفلسطيني، كلّ هذا جعلها دائماً عصيّة على الاحتواء، لذلك لم يكن غريباً أن يتمنّى ايتسحاق رابين أن يستيقظ يوماً ويجدها قد ابتلعها البحر، لأنه ببساطة شديدة كانت وما زالت الكابوس الذي يذكّر "إسرائيل" بأنّ هناك شعباً حيّاً يرفض الفناء والتهجير مرة أخرى.
عامان من الحرب كانا كاشفين لتوازنات كبيرة في المنطقة، غزة فرضت على "إسرائيل" أطول حرب في تاريخها، استنزفت "جيشها" وكسرت صورة "الجيش" الذي لا يقهر، ودفعت في لحظة حلفاءه إلى تبريرات أخلاقية لم تعد تقنع حتى جماهيرهم، فتحوّلت غزة إلى أيقونة عالمية بالدم والتضحيات الجسام والصمود الأسطوري الكبير.
الحديث عن مجلس سلام وما فيه من تفاصيل هو محاولة أميركية لإعادة ضبط الفشل الإسرائيلي في غزة، ومحاولة لإعادة الإمساك بالمشهد مرة أخرى بعد انفلاته في حرب باتت قبل إيقافها فاشلة بلا أفق.
الإدارة الأميركية خلال عقود مضت رعت مشاريع سلام أكثر من مرة تجد نفسها اليوم أمام واقع مختلف، لا يمكن فرض تسوية بالقوة، ولا تمرير مشاريع إقليمية كبرى من دون المرور من بوابة قطاع غزة.
ترامب معروف بعقليته الاقتصادية يرى في غزة فرصة ومحطة لإعادة ترتيب أوراق المنطقة من جديد وتسويق نفسه كصانع للسلام ومهندس لمرحلة جديدة يريدها كشرق أوسط جديد، أما "إسرائيل" من وجهة نظرها فتراها فرصة لإعادة إنتاج نفسها بعد الحرب والعزلة الدولية التي تعيشها بهدف تكريس الهيمنة لليمين الإسرائيلي المتطرّف، أما على صعيد نتنياهو فيعتبر المشهد فرصة لإثبات معركة وجود شخصي ويريد أن يثبت للجميع أنه خرج من الحرب بنصر وهمي يجنّبه السقوط السياسي.
أمام كلّ هذه المعادلات، هناك قاسم مشترك، هو الشعب الفلسطيني والمقاومة، وتجاهل ذلك فيه عدم بصيرة بمعرفة عقل الشعب الفلسطيني الذي يرفض التركيع، ولا يمكن التعامل معه ككتلة بشرية قابلة للاحتواء وإعادة الهندسة السياسية وفق مقاسات أميركية.
يدور الحديث حالياً عن المرحلة الثانية من خطة الرئيس ترامب بعدما أوفت المقاومة بالتزاماتها، وإذا ما أعلن عنها رسمياً، سواء تحت إعادة الإعمار أو الترتيبات السياسية عبر مجلس سلام مرتقب، وتقديري أنّ الصراع سيدخل شكلاً جديداً، لا أقلّ حدّة لكنه سيكون أكثر تعقيداً، وعناوين المرحلة المقبلة لن تكون عسكرية بشكلها المعهود، لكنها ستكون صراعاً على الرواية والوجود والشرعيّة ومن يملك حقّ تمثيل الشعب الفلسطيني في غزة ومستقبله.
أما عن الإعمار، فهذا ملف بحدّ ذاته سيخضع لمعادلة المساومة والابتزاز، وستعمل كلّ الأطراف بما فيها "إسرائيل" وفي مقدّمتها الإدارة الأميركية التي تتصدّر المشهد على فرض معادلة نزع السلاح والهدوء مقابل الإعمار، إلّا أنّ التجارب السابقة طيلة العقود الماضية تقول إنّ لغة الابتزاز لن تجد طريقاً للنجاح، لأنها تتعامل مع النتيجة لا مع السبب، فغزة طيلة مسيرتها لم تقاتل يوماً من أجل تحسين شروط الحياة تحت الحصار، بل من أجل كسر منطق الحصار نفسه، وقاتلت من أجل الانعتاق من الاحتلال الإسرائيلي لا من أجل القبول بالتعايش، ومن أجل الحرية بوصفها حقاً للشعب الفلسطيني لا منحة من أحد.
غزة مقبلة على مرحلة رهان وتحدٍ كبيرة، يثبت فيها الفلسطيني قدرته على فرض معادلة وطنية جامعة تمنع تحويل غزة إلى ورقة تفاوض إقليمية أو مختبر تخضع لمشاريع أميركية ودولية فاشلة، وقد أثبتت التجربة أنّ الشعوب التي ضحّت وتصنع ملاحم الصمود وترنو الحرية لا تهزم على طاولات التفاوض الدبلوماسية، مهما بلغت موازين القوة ومهما بدت الموازين العسكرية غير متكافئة، والتاريخ القريب أثبت أنّ الشعب الفلسطيني رغم جراحه قادر على إفشال كلّ المشاريع التي يمكن أن تسلب حقوقه باسم السلام، ولنا في التجربة الأميركية في العراق وأفغانستان دليل كبير، وكما تفعل اليوم في محاولات إعادة تعريف فلسطين كقضية تحرّر حاضرة بقوة على الطاولة الدولية لا كملف إنساني.
وسط كلّ هذه التعقيدات، وأنا ممن عشت حرب الإبادة عامين كاملين ولامست الواقع الفلسطيني جيداً بحذافيره، متأكّد تماماً من أنّ غزة تعرف طريقها، ليس في الأفق سلام يفرض عليها ولا مجلس قادر أن يختزل تضحياتها وصمودها، غزة التي صمدت أكثر من عامين تحت النار والقصف ودفعت أثماناً كبيرة تفوق الوصف لن تقبل أن تكون تفصيلاً في مشروع أميركي، ولا جسراً لفرض شرق أوسط جديد، ولا حتى طوق نجاة لسياسي مأزوم ومهزوم أو لمقاول صاحب صفقات، الحقيقة الوحيدة التي يعرفها الشعب الفلسطيني أنّ الدم الذى روى هذه الأرض بشهدائه، يعرف أنّ الحرية لا تمنح وأنّ السلام لا يولد بالإخضاع.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً