قبل 21 ساعە
شرحبيل الغريب
17 قراءة

"إسرائيل" والاختلال الاستراتيجي.. من صدمة الطوفان إلى خطة الإنقاذ

تعيش "إسرائيل" واحدة من أعقد مراحلها السياسية والأمنية منذ قيامها على أرض فلسطين عام 1948، مرحلة تجاوزت في وصفها بالأزمة إلى مستوى الاختلال الاستراتيجي، فقد تداخلت فيها الانقسامات الداخلية وتراجع الردع العسكري إلى حد كبير، وتآكلت الثقة بالقيادة وازدادت من حولها الضغوط والعزلة الدولية، لتشكل هذه العناوين إعادة صياغة مشهد يكشف عن حجم هشاشة البنية السياسية والأمنية فيها. 

هذا الاختلال الذي بدأ يؤدي إلى التفكك، لم يبدأ مع الحرب على غزة لكنه طفا إلى السطح تدريجياً بصورة غير مسبوقة بعد وصول حكومة الائتلاف لليمين الإسرائيلي المتطرف في 2022، وقبل أن ينفجر برميل البارود بالكامل في السابع من أكتوبر 2023 مع تنفيذ عملية "طوفان الأقصى"، الحدث الذي شكّل نقطة تحوّل في "إسرائيل" داخلياً وخارجياً، ثم تعمقت بفعل الأداء العسكري والسياسي المرتبك طيلة فترة الحرب. 

ما تعيشه "إسرائيل" هذه المرحلة هو اختلال وعدم اتزان وانهيار في القدرة على ضبط النظام الداخلي أو السيطرة على مسار العلاقات الدولية الخارجية، وهذا الانكشاف الكبير يعكس لحظة فارقة في تاريخها، وهي التي نشأت قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً على ركائز ثلاث أساسية لطالما تفاخرت بها، بدءاً من ركيزة التفوق العسكري، والدعم الدولي اللا محدود، وصولاً إلى تماسك الجبهة الداخلية.

الناظر في حال "إسرائيل" اليوم بعد كل ما جرى من أحداث يصل إلى استنتاجات هامة ذات بعد استراتيجي، مفادها أن هذه الركائز بدأت تتآكل بالتوازي بالفعل، وهذه الحال تدفع "إسرائيل" نحو مشهد سياسي وأمني فيه اختلال وحال اللا استقرار، حددت ملامحه المقاومتان الفلسطينية في غزة والإسلامية في لبنان من جهة، والضغوط الدولية والأميركية وإعادة تشكيل المنطقة، من جهة أخرى. 

تظهر مظاهر الاختلال الاستراتيجي في "إسرائيل" في جوانب عدة، وعلى مستويات متعددة لا يمكن تفسيرها كأنها أزمات هامشية عابرة، بل إشارات تعكس اختلالات بنيوية عميقة. 

أولاً: تفكك في النظام السياسي وتآكل في شرعية الحكم، ومنذ تشكيل حكومة نتنياهو الائتلافية التي تعد أكثر حكومات "إسرائيل" تطرفاً، انفجرت التناقضات داخل النظام السياسي، و تفاقمت الأزمات بين الشارع الإسرائيلي والمؤسسات، وتصاعدت المظاهرات وانعدام الثقة بالمستوى السياسي، وتحديداً بعد إخفاق "الجيش" في منع أو إفشال عملية "طوفان الأقصى"، وفي جردة حساب سريعة لعامين مضيا لم يستطع نتنياهو تجاوز مشهد الخلافات بين ائتلافه والمعارضة وتحوّل المشهد إلى مشهد مرهق ذي عبء مباشر في إدارة الحرب، وظهرت للمرة الأولى المؤسسة العسكرية في "إسرائيل" في حالة صدام مع المستوى السياسي، بدأت من التصريحات الإعلامية إلى مسلسل التسريبات وصولاً إلى التصريحات العلنية، كلها مؤشرات كشفت وعكست عمق الشرخ والاختلال داخل البنية السياسية الإسرائيلية.

ثانياً: انهيار الردع وتراجع الثقة في القوة العسكرية، إذ شكلت عملية "طوفان الأقصى" منذ لحظتها الأولى ضربة مباشرة لأسطورة الردع الإسرائيلي، و"الجيش" الذي كان يقدّم نفسه القوة الأقوى في المنطقة، وجد نفسه أمام انهيار كامل لفرقة غزة، وعاجزاً عن حماية الحدود بل وعن منع اقتحام مستوطنات محصّنة بالجدر والتكنولوجيا، بل وأبعد من ذلك عن الفشل في حسم الحرب وتحقيق أهدافها، رغم مرور أشهر طويلة.

أضف إلى ذلك، الإخفاقات الأمنية الاستخبارية وعدم القدرة على تحديد شكل نهاية الحرب وفق الأهداف الاستراتيجية المعلنة لها، وتوسع جبهات الاشتباك والإسناد من غزة إلى شمال فلسطين حيث حزب الله، والبحر الأحمر حيث القوات اليمنية المسلحة، كلها عوامل جعلت "إسرائيل" تعمل فوق طاقتها العسكرية وتتكبّد كلفة سياسية وأمنية غير مسبوقة، والأمر لم يتوقف إلى هنا وعند هذا الحد، فحرب الشوارع في غزة كشفت عن فجوة استراتيجية بين التعاظم الدعائي لـ"جيش" الاحتلال الإسرائيلي في بيئة قتل معقدة وقدراته الفعلية على الأرض في الفشل في حسم المعركة لمصلحته، وهذا أدى إلى اختلال في الجبهة الداخلية وتصاعد حالة الانتقادات في أوساط المؤسسة العسكرية في "إسرائيل". 

ثالثاً: تصدع الصورة وتراجع المكانة الدولية لـ"إسرائيل"، فالصورة التي حرصت على تسويقها لعقود، تصدعت بشدة، والضغوط الدولية ودرجة المقاطعة بلغت مستويات لم تعهدها "إسرائيل" من قبل، ووصل بها الحال إلى بدء جهات دولية بفتح تحقيقات أممية وانتقادات دولية وغربية لاذعة، وارتفاع مستويات المقاطعة، وانتفاضات الجامعات في أميركا ودول مختلفة، وتزايد الخطاب الحقوقي الذي وضع "إسرائيل" في خانة الدول المنتهكة للقانون الدولي المرتكبة لجرائم حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين. 

حتى داخل الولايات المتحدة الأميركية، التي تعدّ الحليف الأكبر لـ"إسرائيل"، بدأ الإجماع الداعم لها يفقد بريقه ويتفكك ويتآكل، سواء على صعيد المؤسسات الرسمية أو الإعلام أو الرأي العام، كل هذه التراجعات مجتمعة شكلت حلقة من حلقات اختلال التوازن الاستراتيجي الذي بات يضرب العمق السياسي والصورة الرمزية لـ"إسرائيل" في المنطقة. 

لم تكن عملية "طوفان الأقصى" مجرد عملية عسكرية عادية من المقاومة الفلسطينية، بل في القراءة الاستراتيجية تعدّ تحوّلاً مفصلياً شكّل ضرباً واضحاً لمفهوم إرادة البقاء للمشروع الإسرائيلي، وأدخله من مرحلة الصدمة والارتباك لحظتها إلى مرحلة فقدان البوصلة لاحقاً، فقد كشفت العملية لحظة تنفيذها قدرة المقاومة الفلسطينية على اختراق منظومة الأمن الإسرائيلية، وضرب مراكز حساسة في قلب العمق الإسرائيلي، هذا كله أدى إلى انهيار مساحة كبيرة من الثقة بين الجمهور والمستويات الرسمية.

ساهمت المقاومة الفلسطينية في تعميق هذا الانكشاف وفي فرض حرب استنزاف طويلة تجاوزت كل التوقعات ورؤية "إسرائيل" نفسها للحرب طيلة العامين، وفتح جبهات متعددة في وجه "إسرائيل" شكّل حال إرباك كبير غير مسبوق، كل هذه المعطيات أطالت أمد الحرب وعكست فشلاً إسرائيلياً في تحقيق الأهداف، وتحويل قطاع غزة إلى ساحة اختبار لقدرات "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، أثبتت فيها المقاومة قدرة عالية على الصمود والمناورة وإيقاع الخسائر، حتى باتت "إسرائيل" بعد عامين من الحرب تواجه سؤالاً وجودياً، كيف يمكنها استعادة الردع في ظل استمرار هشاشة الجبهة الداخلية وتآكل الثقة بالمستويات السياسية والأمنية مع تنامي العزلة الدولية.

تحركت الولايات المتحدة الأميركية في محاولة لفرض هندسة مشهد جديد في المنطقة يخدم استقراراً نسبياً لـ"إسرائيل"، ويخفف من الضغوط والعزلة عليها، فجاءت خطة الرئيس ترامب كمخرج للأزمة ومحاولة لإنقاذ "إسرائيل" من مغامرات نتنياهو وائتلافه الحاكم، وطرحت مساراً سياسياً يستند إلى واحد وعشرين بنداً، يقضي بإنهاء الحرب على غزة، الخطة بجوهرها شكلت طوق نجاة سياسياً لنتنياهو الذي يبحث طيلة عامين من الحرب عن مخرج من مستنقع الحرب التي طالت وامتدت وتوسعت وزادت كلفتها على كل الصعد. 

منحت خطة الرئيس ترامب "إسرائيل" طوق نجاة حقيقياً، وفرصة للانتقال من مربع الفشل العسكري مع تراكم الضغوط الداخلية والخارجية إلى مربع المشروع السياسي بغطاء أميركي يعيد الثقة بالتحالف الاستراتيجي، ومنحت نتنياهو مسار تطبيع ولو شكلي أو بشكل أدق مساراً لإعادة إحياء مشروع التطبيع يخفف الضغط عن "تل أبيب" في ظل العزلة الدولية، وإعادة بناء معادلة سياسية داخلية تسمح بالعفو عن نتنياهو وإطالة عمر حكومته وصولاً إلى الانتخابات.

هذا كله يوصلنا إلى نتيجة استراتيجية، أن طرح الخطة الأميركية من الأساس يعكس اعترافاً أميركياً أن "إسرائيل" فقدت قدرتها على إدارة مشهد الحرب وحدها، وأن إعادة هندسة المشهد لم تعد خياراً بل ضرورة في "إسرائيل".

إزاء هذا كله، باتت "إسرائيل" التي تراكمت فيها الضغوط الداخلية والخارجية تسير وفق ما تراه الوصاية الأميركية الجديدة التي تعمل لأجل منح "إسرائيل" فرصة لإعادة صياغة مخارج سياسية تخفف من حدة الانكشاف والاختلال الاستراتيجي.

وانطلاقاً من هدف أميركا في إعادة الشرعية السياسية لنتنياهو، يسعى إلى استخدام هذا المسار ليظهر كشخص قادر على إدارة العلاقات مع واشنطن، وتقديم إنجاز سياسي يعيد تشكيل صورته أمام شركائه وخصومه في ظل تآكل الثقة فيه. 

ولا ننسى هنا أن نذكر بأن الخطة الأميركية وفرت إطاراً يمكن لـ"إسرائيل" إنهاء الحرب من دون الإقرار بالفشل، تحت عناوين مختلفة، أبرزها ترتيبات أمنية جديدة، وشرق أوسط جديد، وهذا من وجهة نظرها يحفظ لها مخرجاً سياسياً مقبولاً على أقل تقدير. 

الخطة الأميركية تخدم كذلك مشروع اليمين الإسرائيلي المتطرف، وتوفر له مساحة أكبر لتعزيز سيطرته لكن بطريقة ناعمة إلى حد كبير، وهو ما يجعل الائتلاف الحاكم بزعامة نتنياهو يرى في الخطة الأميركية فرصة لتثبيت أجندته، رغم كل ما جرى. 

المحصلة النهائية لنتنياهو تعد خطة الرئيس ترامب أشبه بضمانة سياسية مؤقتة تمنع الانهيار الكامل وتحاول إنقاذ المشهد ولو تكتيكياً، لكن الأهم أمام كل هذا هو أن "إسرائيل" تقف أمام لحظة تاريخية مليئة بالأسئلة، فـ"طوفان الأقصى" لم يكن مجرد عملية عسكرية للمقاومة فحسب، بل شرارة كشفت عمق الاختلالات الاستراتيجية البنيوية في "إسرائيل"، إلى أن جاءت الخطوة الأميركية لتوفر لـ"إسرائيل" فرصة لالتقاط الأنفاس وجاءت معها الضغوط الأميركية لتؤكد أن "إسرائيل" لم تعد اللاعب المطلق المتحكم في مسار الأحداث، وأن المنطقة تتجه إلى واقع جديد لا مكان فيه أبداً للاتزان القديم، ولا مكان فيه لتغييب الحقيقة التي يتوجب على الجميع إدراكها، وهي أن "إسرائيل" بعد عامين من "الطوفان" تعيش أعمق لحظات الاختلال الاستراتيجي منذ عقود. 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP