قبل سنە
شرحبيل الغريب
180 قراءة

من دايتون إلى فينزل.. مقاومة الضفة في دائرة الاستهداف

قبل 15 عاماً، وتحديداً في عام 2007، أرسلت الولايات المتحدة الأميركية مبعوثاً أمنياً إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لتنفيذ خطة أمنية، سُمِّيت آنذاك خطة الجنرال كيث دايتون، كان هدفها الأساس تأهيل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وإعادة تسليحها وتدريبها وفق عقيدة أمنية، تحفظ "أمن إسرائيل"، وتهدف إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية وملاحقتها، وتعمل على تفكيك بنيتها التحتية في الضفة الغربية المحتلة.

عَمِلَ الجنرال دايتون آنذاك على تنفيذ خطته في الأراضي الفلسطينية، وترأّس حينها فريقاً أميركياً يضم جنسيات أخرى، وبدأ تدريب عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، من خلال تمويل مباشر من الكونغرس الأميركي، وأنفقت الإدارة الأميركية وقتها 275 مليون دولار، بينما ساهمت دول عربية خليجية في التمويل من أجل إنجاح هذه الخطة.

تُعيد إدارة بايدن، على رغم انشغالها بملفات دولية وإقليمية كبرى، الكَرّة مرة أخرى، وتتدخل بصورة سافرة في الساحة الفلسطينية، بعد جولة حراك أميركي غير مسبوقة شهدتها المنطقة مؤخراً، في إثر تنامي تشكيل المجموعات الفلسطينية المقاومة، وتصاعد العمل الفلسطيني المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، وتحديداً خلال الأشهر الأخيرة، ونجاح المقاومة في توجيه ضربات أمنية مؤلمة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي ومنظومته الأمنية في الضفة الغربية والقدس المحتلتين.

خطة مايكل فينزل، المنسق الأمني الأميركي، والتي كشف عنها موقع "أكسيوس" الأميركي، تتلخص كما تلخصت من قبلُ خطة الجنرال دايتون، هدفها تشكيل قوات فلسطينية خاصة من الأجهزة الأمنية، وإخضاعها لتدريب عالٍ، وتسليحها بهدف كبح جماح المجموعات المقاومة في منطقتي نابلس وجنين، بصورة خاصة. وتهدف الخطة إلى إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية من جديد على منطقة شمالي الضفة وتمكينها من ملاحقة المجموعات المقاومة المسلحة والقضاء عليها.

وافقت "إسرائيل" مباشرة على الخطة الأميركية، كما وافقت عليها السلطة الفلسطينية، ضمن رؤية أميركية متكاملة، قُدِّمت إليها بعد نجاح إدارة بايدن في إقناعها بسحب مشروع قرار إدانة الاستيطان من مجلس الأمن في مقابل بعض الوعود بتهدئة الإجراءات الإسرائيلية، كوقف الاستيطان أشهراً، ووقف هدم المنازل موقتاً في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وتقديم رزمة من الامتيازات المالية والتسهيلات الأخرى إلى الفلسطينيين، مع ضمان عودة السلطة الفلسطينية إلى التنسيق الأمني مع "إسرائيل"، وهو الشق الأمني المتبقي من اتفاقية أوسلو فعلياً.

حاولت الإدارات الأميركية المتعاقبة، مراراً وتكراراً، استهداف المقاومة الفلسطينية بعدد من الخطط والمؤامرات. وكانت أغلبيتها تتبنى خيار حفظ "أمن إسرائيل" في مقابل تصفية مقاومة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وعبر استخدام مقصود لأجهزة أمن السلطة في رام الله كأداة رئيسة في التنفيذ.

راهنت "إسرائيل"، ومن خلفها أميركا، على مدار أعوام مضت، على صناعة الفلسطيني الجديد، وربما نجحت، نسبياً، في إقناع البعض الفلسطيني بقبول التعايش مع الاحتلال الإسرائيلي، وفق عقيدة أمنية تقوم على حماية "أمن إسرائيل" ومحاربة المقاومة وملاحقة المقاومين. ولا يمكن أن ننسى، في تلك الفترة، الافتخار الذي عبّر عنه الجنرال كيث دايتون، والإشادة بكلمة ألقاها أحد الضباط الفلسطينيين، في حفل تخريج إحدى الدورات الأمنية التي أشرف عليها دايتون شخصياً، والتي كشفت اللثام عن حقيقة العقيدة التي يتلقّاها هؤلاء الأفراد، إذ خاطب جموع الضباط الخرّيجين قائلاً: "لم تأتوا إلى هنا لتتعلّموا كيف تقاتلون إسرائيل".

أثبت الجيل الفلسطيني الجديد، على مدى أعوام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أنه يسير عكس كل الخطط الأميركية والإسرائيلية، وأن النجاح النسبي، الذي تحقّق في ظروف استثنائية، لم يدُم طويلاً. وأثبت كذلك الفلسطيني، قولاً وفعلاً، أنه غير قابل للتدجين أو الاحتواء. وبدا واضحاً أكثر في عقيدته الوطنية الصحيحة خلال معركة سيف القدس، في أيار/مايو 2021، وما شهدته بعدها الساحة الفلسطينية من جولات صراع دائرة ومستمرة مع الاحتلال الإسرائيلي.

سجّلت خطة الجنرال دايتون إخفاقاً كبيراً وواضحاً في القضاء على بنية المقاومة الفلسطينية، بصورة كاملة، وفق الحسابات الأميركية الإسرائيلية، التي أُعِدّت من أجلها. كما فشلت فشلاً ذريعاً في شطب فكرة المقاومة الراسخة من أذهان الجيل الفلسطيني الجديد، وجعلت العقل الفلسطيني يبتكر أدوات وطرائق ووسائل تجعله يحافظ على ديمومتها واستمرارها، جعلت "إسرائيل" عاجزة عن مواجهتها. وهذا ما شاهدناه في الأساليب والوسائل المتعددة، والتي استخدمتها مجموعات عرين الأسود وكتيبة جنين وغيرهما من التشكيلات الفلسطينية المقاومة. تُضاف إليها عمليات إطلاق النار وعمليات الدهس الفردية، والتي نجحت بفعل الإصرار على نهج المقاومة وعدم الاستسلام في تحقيق معادلة مواجهة جديدة، عنوانها فقدان الأمن الشخصي لجيش الاحتلال ومستوطنيه. وهذا يؤكد أنّ الخطط الأميركية والإسرائيلية لم تستطع إنهاء فكرة المقاومة في العقل الفلسطيني.

تاريخياً، الخطط الأميركية للتدخل في الشأن الفلسطيني والتآمر على قضيته ليست بالجديدة، بل بدأت منذ عدة عقود فيما عُرف بمشروع توطين اللاجئ الفلسطيني. وبالتالي، جاءت خطة المنسق الأمني فينزل، وفق السياسة الأميركية المكشوفة، من أجل استئناف جهود القضاء على المقاومة، وتمهيد الطريق أمام الاحتلال لتصفية القضية، ودمجه في المنطقة، وحمايته من أي محاسبة على جرائمه، كهدف واحد حملته تلك الخطط التي تباينت في أسمائها وتوقيتاتها.

الخطط الأميركية تصب دوماً في مصلحة تحقيق الأمن الإسرائيلي، وهذا هدف استراتيجي لكون "إسرائيل"، منذ احتلالها فلسطين عام 1948، تؤدي حالة وظيفية تتناغم مع الرؤية الأميركية في المنطقة، والهدف الأساسي للخطط هو تحقيق حالة من الاستقرار للمشروع الأميركي. وهذا يفسَّر من خلال إرسال إدارة بايدن وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ومدير استخباراته إلى المنطقة مؤخراً، من أجل تحقيق الهدف نفسه.

السياسة الأميركية المتبعة مع السلطة الفلسطينية قائمة على أسلوب الضغط والابتزاز وترسيخ معادلة الأمن في مقابل الوعود، في ظل عدم امتلاكها أي أوراق قوة يمكن أن تلوّح بها أمام جرائم "إسرائيل" المتصاعدة بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته. ومثل حالة الارتهان والعجز الرسميين الفلسطينيين، والانسياق وراء الخطط الأميركية، تبقى شهية "إسرائيل" مفتوحة أكثر إلى التغول على الشعب الفلسطيني، وهذه الحالة تريح "إسرائيل"، ومن خلفها الإدارة الأميركية.

رهان السلطة الفلسطينية على الخطط والمشاريع الأميركية في أن تكون مدخلاً لتهيئة الظروف كي تعيد إحياء المسار السياسي والمفاوضات بينها وبين "إسرائيل"، هو تقدير خاطئ بامتياز. فأطماع حكومة اليمين المتطرف عنوانها حسم الصراع مع الفلسطينيين وليس إدارته، وباتت واضحة أكثر من أي وقت مضى، بل تزداد. وبالتالي، فإن هذا الرهان يُعَدّ رهاناً على وهم وسراب، لأنه، في أبسط المعاني، يتعارض مع الإرادة الشعبية والوحدة الوطنية الميدانية في الضفة الغربية، التي اجتمعت فيها الفصائل والتشكيلات العسكرية على مقاومة الاحتلال.

المقاومة دائماً تفاجئ كل الأطراف التي تخطط من أجل القضاء عليها. وفي كل المحطات، استطاعت أن تربك حساباته، والدليل أن الذين يخوضون المقاومة هذه المرة يخوضونها بأساليب جديدة، أي مقاومة غير تقليدية وغير معروفة الأساليب، هم من الجيل الفلسطيني الجديد غير المعروف لدى الأمن الإسرائيلي، كون معظمهم لا ينتمون إلى تنظيم أو فصيل فلسطيني معين، أو هناك ضبابية كبيرة بشأن انتماءاتهم، وهو ما دفع نتنياهو إلى الاعتراف، بصورة صريحة، بأن العمليات التي جرت مؤخراً تشكّل تحدياً أمنياً لـ"إسرائيل"، لا حل له، وهذا ما جعله يطلب النجدة من الإدارة الاميركية، التي هرعت إلى المنطقة بمبعوثين سياسيين وأمنيين وخطط، عنوانها الرئيس هو القضاء على المقاومة .

الضفة الغربية كانت وما زالت تمثل حالة الصراع المركزية مع "إسرائيل"، والشعب الفلسطيني يعيش اليوم في مرحلة أكثر ضراوة في المواجهة مع الاحتلال، إذ أصبحت المقاومة لدى الجيل الفلسطيني الجديد خياراً استراتيجياً، لا بديل منه، كخيار هو الأقدر على لجم الأطماع والجرائم لحكومة الائتلاف الإسرائيلي، بزعامة نتنياهو.

أخيراً، إن ما تعجز "إسرائيل" عن تنفيذه في الضفة الغربية، في أرض الواقع، وأمام حالة الفشل والعجز الإسرائيليين في مواجهة الجيل الفلسطيني الجديد، الذي أصبح عنصر مبادرة وتحدٍّ في تنفيذ عمليات جريئة ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه، لن تقدر أي قوة أخرى على إنجازه، حتى لو كانت الولايات المتحدة. وما يقدمه الجنرال مايكل فينزل من خطط أمنية ليس إلّا وهماً جديداً بالقضاء على المقاومة، ولن يؤدي إلى إضعاف وتيرتها، التي انطلقت وتتصاعد من دون تراجع، بل بالعكس تماماً، كلما اشتدت جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهم، ازدادت شعلة المقاومة في وجه "إسرائيل".

لا تتبنى الاشراق بالضرورة والتوصيفات المذكورة.

إقرأ أيضاً

Copyright © 2017 Al Eshraq TV all rights reserved Created by AVESTA GROUP