فرصة في عودة العلاقات أَمْ دبلوماسية جنائز؟
هي الأولى من نوعها منذ خمسة وعشرين عاماً، وبموافقة مباشِرة من الملك الأردني عبد الله الثاني، جاءت زيارة وفد رفيع المستوى، يرأسه رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، للعاصمة الأردنية عمّان، لحضور تشييع جثمان إبراهيم غوشة، عضو المكتب السياسي السابق فيها، والذي وافته المنية في العاصمة الأردنية عمّان.
في عرض سريع لأَوْجُه العلاقة بين حركة "حماس" والأردن، وبعد أن كان مقرُّ إقامتها العاصمةَ الأردنية عمّان حتى عام 1999م، شهدت العلاقة بين الطرفين حالةً من القطيعة والفتور الكبيرين قبيل مغادرة قادتها الأراضيَ الأردنية وإغلاقِ مكتبها، وَفْقَ قرار سيادي أردني غيّر مسار العلاقة بين الطرفين، وأدى إلى إنهاء وجود "حماس" بصورة نهائية في الأردن. وترتّب على هذا القرار إبعادُ عدد من قادتها إلى الدوحة، لتبدأ بعدها قطيعة طويلة.
على الرَّغم من حالة القطيعة التي طال أمدُها سنوات، فإنَّ الاتصالات لم تنقطع نهائياً بين "حماس" والأردن، واختُزلت باتصالات ذات طابع أمني، إذ سمحت، في محطات سابقة، بزيارات إنسانية مشابهة. ووفق كثير من المتغيّرات والإشارات الإيجابية التي خرجت مؤخَّراً من الساحة الأردنية، شعبياً وبرلمانياً، وتحديداً بعد معركة "سيف القدس"، فإنّ المواقف أصبحت أكثر وضوحاً تجاه المقاومة الفلسطينية بصورة عامة، وحركة "حماس" على وجه الخصوص.
على الرَّغم من أن الزيارة جاءت من أجل حضور جنازة قيادي كبير في الحركة، وعلى الرَّغم من أن طابعها إنساني، كما أعُلِن، فإنه يمكن قراءة الزيارة، في الوقت ذاته، من زاوية أخرى، والجزمُ بأنها زيارة غير عادية لأنها جاءت بموافقة مباشِرة من الملك عبد الله الثاني. وإن كان من قراءة، فهي تحمل رسائل إيجابية، في موازاة رسائل سابقة يمكن البناء عليها، وتعكس رغبة أولية في إعادة العلاقة بـ"حماس"، وفق صورة جديدة. وهذا تعزَّز في الأيام الأخيرة من معركة "سيف القدس" بعد الكشف عن اتِّصالات أجراها مدير المخابرات الأردنية بإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، للبحث في وقف إطلاق النار مع "إسرائيل".
معروف أن المشهد الأردني معقَّد سياسياً واقتصادياً إلى حدّ كبير، لكنّ ثمة معطيات حدثت مؤخَّراً تشير إلى أن الأردن يحاول، بتردُّد، استعادة شيء من العلاقة بحركة "حماس"، بعيداً عن حسابات هذه الخطوة وانعكاساتها على صعيد الأردن الداخلي، وحتى فيما يتعلق بسياسته الخارجية. ويمكن تفسير الاتّصالات السالفة الذِّكْر بوجود رغبة أردنية في علاقة مباشِرة بحركة "حماس"، ودور في قطاع غزة يتجاوز دبلوماسية الإغاثة، طبياً وإنسانياً، والمستشفيات الميدانية التي يبنيها الأردن، من خلال إقامته مستشفىً ميدانياً أردنياً في قطاع غزة يعمل على تقديم الخدمة الطبية إلى المواطن الفلسطيني منذ سنوات.
لا يمكننا أن نُغفل، في الصدد ذاته، تصريحات سابقة لإسماعيل هنية جاءت مخصَّصة تجاه ترتيب العلاقات بالأردن، وعبّر فيها بوضوح عن وجود رغبة حمساوية في تعبيد الطريق أمام دور أردني أكثر فاعلية، توازيها رغبة من "حماس" في استئناف الاتصالات بالأردن على المستوى السياسي، وليس المستوى الأمني، وقابلتها تصريحات سابقة لرئيس الوزراء الأردني عون الخصاونة قدّم فيها اعترافاً واضحاً بأن إبعادَ قادة "حماس" وقطعَ العلاقات بها كانا خطأً، دستورياً وسياسياً.
المنطق يقول إن من مصلحة الأردن العليا إقامةَ علاقة قوية ومتينة بحركة "حماس"، والتراجعَ عن المواقف السابقة التي اتَّخذها تجاه الحركة، وخصوصاً أنه أكبر المستفيدين من هذه العلاقة، انطلاقاً من وصايته الهاشمية على المسجد الأقصى المبارك، والقيام بدور مماثل لما تقوم به القاهرة، من حلال الملف الفلسطيني والموقف الثابت من القضية الفلسطينية، حتى لو تباينت المواقف مع حركة "حماس"، أو اختلفت، هنا أو هناك، لكنها ستتوافق، بصورة كبيرة، على رفض أي مشروع يمكن الحديث فيه عن مشروع الوطن البديل وتوطين اللاجئ الفلسطيني في الأردن.
أمّا الواقع فيقول إن الموقف الأردني، وفق الحسابات الأردنية، ما زال ضبابياً، وغير واضح، ومتردداً بشأن القيام بمثل هذه الخطوة، وإن ثمة هواجس حاضرة، وربما هذا الأمر كان نتيجة التخوف من دفع ثمن استعادة العلاقة في ظل ظروف سياسية واقتصادية، في غاية التعقيد، يمرّ فيها الأردن. فمن المعروف أنه يعاني وضعاً اقتصادياً كارثياً، ومدى حاجته إلى المساعدات الإسرائيلية والأميركية كبير. فهذه المساعدات خفّفت حدةَ الأزمة بصورة ملموسة، ناهيك بالخشية من أن تكون هذه الخطوة مقلقة لحليفة الأردن، الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من أن الواقع مغاير ويقول إن "إسرائيل" وأميركا هما أول جهتين توجَّهتا إلى الأردن للتوسّط بهدف وقف إطلاق النار مع حركة "حماس"، على غرار الدول التي تقيم علاقات بالحركة، كجمهورية مصر العربية وقطر.
شيءٌ من الغموض يكتنف تفاصيل ما بعد مراسم دفن القيادي في "حماس" إبراهيم غوشة، أمام أسئلة ما زالت تطرح نفسها بشأن احتمال عقد وفد "حماس" لقاءاتٍ غيرَ معلَنة مع مستويات رسمية في الديوان الملكي الأردني أو الحكومة الأردنية، أم لا، في وقت تواجه القضية الفلسطينية تحديات جمّة. فالمتتبّع لمسار الأحداث يدرك أن دولاً كبرى بدأت السعيَ لإقامة علاقات بحركة "حماس"، بعد تأكّد هذه الدول من أنه لم يعد ممكناً تجاوزُها في أي حلّ للقضية الفلسطينية.
التحوّلات الكبيرة التي حدثت بعد معركة "سيف القدس" تفرض على الأردن إعادة النظر في مواقفه تجاه حركة "حماس"، على قاعدة أن العلاقة بينهما ضرورة ملحّة. وانطلاقاً من هذه المتغيرات، فإن الأردن مطالَب بالمبادرة، على نحو جريء، إلى استعادة العلاقة. ومن دون ذلك، سيبقى الخطأ الاستراتيجي قائماً، والمواقف ذاتها تراوح مكانها. فالقرار المُلائم يُتَّخَذ في التوقيت المُلائم، وليس بعد فوات الأوان. فـ"حماس" تُعتبر لاعباً رئيسياً ومهما ًفي ساحة الصراع العربي مع "إسرائيل"، والقطيعة مع هذه الحركة تُغلق الأبواب أمام الأدوار التي يمكن للأردن أن يؤدّيها في الساحتين الإقليمية والدولية، في الوقت الذي تسعى دول بعيدة لوضع قَدَم لها في معادلة الصراع.
بِتنا اليوم أمام وقائع جديدة ومعادلات وازنة ومؤثّرة، سياسياً وعسكرياً، ونتائجها واضحة، ولا يمكن لأي طرف أو دولة، كالأردن، أن يغفل أو يتغافل عنها:
ــ تمثّل حركة "حماس" في فلسطين قوة عسكرية لا يُستهان بها، وظروف العدوان الأخير على قطاع غزة وانتصارُ المقاومة في معركة "سيف القدس" فرضت معطيات جديدة، وأزاحت الظروف التي كانت سائدة سابقاً، وهو ما يؤهّل لطيّ صفحة الماضي مع الأردن، وفتح صفحة جديدة مع "حماس"، وإعادة النظر بصورة جدية في تحسين مستوى التواصل معها، سياسياً وليس أمنياً.
ــ ضرورة التعاطي رسمياً مع المواقف الشعبية والأصوات البرلمانية المتواصلة، والبناء عليها، من أجل فتح قنوات اتصال، تمهيداً لعودة العلاقات بحركة "حماس".
ــ لا تمثّل حركة "حماس" نفسها، فهي تمثّل نبض الشارع، فلسطينياً وأردنياً، وعربياً أيضاً. وهذا كان واضحاً في إبّان انتصار المقاومة الأخير في معركة "سيف القدس"، وحتى في استقبال إسماعيل هنية في الأردن. لذلك، لا مبرّر لعدم الحوار معها.
التقاط الرسائل الإيجابية المتبادَلة من الطرفين فرصة في تصحيح العلاقات، في اتجاه توحيد المواقف الرافضة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي وأطماعه، وإلاّ فستبقى زيارة هنية والوفد الرفيع المستوى للعاصمة الأردنية عمّان في إطار دبلوماسية الجنائز.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء و التوصيفات المذكورة.