صفقة الغاز الإسرائيلية المصرية... تعويم الكيان في زمن الإبادة
بعد أكثر من سنتين على طوفان الأقصى وما تلا هذا العمل من حرب إبادة جماعية ارتكبها الكيان الإسرائيلي بحقّ الشعب الفلسطيني في غزة، إضافة إلى عدوانه على لبنان وسوريا وإيران، كان من المفترض أن تعيد الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، خصوصاً مصر التي كان من الواضح أنها المستهدف الأول من مشروع نتنياهو لتهجير سكان القطاع إليها، أن تعيد تقييم واقع علاقاتها مع الكيان.
غير أنّ إعلان رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو عن مصادقته على صفقة تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، من خلال تأكيده أنها تراعي مصالح الكيان الأمنية والحيوية، يظهر أنها لن تكون بعيدة في مضمونها وسياقاتها المستقبلية عمّا كان واقعاً بموجب اتفاقية كامب ديفيد التي أرست علاقات طبيعية بين النظام الرسمي المصري والكيان الإسرائيلي عام 1979.
في هذا الإطار، يصبح من الضروري البحث فيما قد يكون الكيان الإسرائيلي قد حقّقه من خلال هذه الصفقة ومقارنته بما يمكن استخلاصه من منافع أو أضرار قد تطال الدولة المصرية. بدايةً، تجب الإشارة إلى تنوّع مصادر الغاز في المنطقة بحيث يظهر الكيان الإسرائيلي على أنه يمتلك كميات ضئيلة نسبية مقارنة بدول كقطر أو غيرها. ثم إنّ مصر نفسها تحتوي على احتياطات لا يستهان بها وقد سبق لها أن صدّرت كميات كبيرة منه إلى الكيان بين عامي 2005 و2011. وعليه، يمكن توصيف العلاقة في مجال الطاقة بين الطرفين على أنها وظيفيّة لا تعبّر عن حاجة مصرية وإنما يمكن توصيفها على أنها مجرّد علاقة تستهدف في المقام الأول تلبية حاجة الكيان.
وإذا سلّمنا جدلاً بظروف موضوعية أضعفت قطاع إنتاج الطاقة في مصر أو أخّرت عملية تطويره ليبقى قادراً على تلبية حاجة السوق المصرية، أو تأدية دور الوسيط في مجال التصدير عبر الخطوط المصرية، فيمكن القول إنّ ما يحدث اليوم لا يدلّل على خيارات مصرية معدومة أو فقدان مصادر التوريد الأخرى، وإنما يدلّل على تسليم مصري بعدم إمكانية الخروج على مخطّط مشروع بايدن للربط الاقتصادي الذي يستهدف في مقام متقدّم تحييد الدور الاستراتيجي لقناة السويس، وبالتالي مصر، بحيث تظهر مصر على أنها تتحاشى مواجهة هذا المخطط أو البحث في تطوير خيارات منافسة على غرار تعميق علاقاتها بالصين ومشروع طريق الحرير.
لقد هدفت اتفاقية كامب ديفيد في المقام الأول إلى تحييد مصر عن الإجماع العربي الذي كان يحتضن الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية، حيث نجح الكيان الإسرائيلي ومن خلفه الولايات المتحدة في تحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى نزاع محدود الأطراف يحكمه مسار سياسي أدّى فيما بعد إلى توقيع مجمل القوى العربية لاتفاقيات سلام مع الكيان، بدءاً من أوسلو ووادي عربة مروراً بالاتفاق الإبراهيمي وصولاً إلى التسويات التي يتمّ العمل عليها اليوم مع المملكة العربية السعودية وسوريا وأيضاً لبنان.
أما الأهمّ من ذلك، فيمكن تعريفه من خلال إعادة تعريف القضية الفلسطينية حيث تحوّل الهدف العربي من استرجاع كامل فلسطين وضمان حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره إلى البحث في حلول يمكن تحديدها بحكم ذاتي بحدود غير معلومة ومجرّد من السيادة والأمن الذاتي.
وإذا عدنا إلى الأهداف التي تحدّث عنها بنيامين نتنياهو في بداية حرب الإبادة على القطاع، سيظهر واضحاً أنها تتقاطع مع محاولته لتعريف القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية بطريقة محدودة بإطار التمييع وقضم ما يمكن قضمه من أراضي فلسطين التاريخية حيث يتمكّن لاحقاً من ابتلاع فلسطين والتمدّد في أراضي الدول المجاورة.
لقد كان واضحاً من خلال طوفان الأقصى والإبادة في غزة أنّ الكيان قد خسر الكثير من مكانته الإقليمية، حيث ظهر في اللحظة الأولى يوم 7 أكتوبر 2023 محدود القوة وفاقداً للردع وعاجزاً عن إدارة معركته من دون تدخّل غربي. فالتوصيف الإسرائيلي للواقع على أنه تهديد وجودي قد أظهر ميلاً إسرائيلياً للتسليم بفقدان مكانة الكيان كقوة إقليمية كبرى قادرة على تقرير مصيرها ومصير الأمن الإقليمي.
وبالتالي كان هذا الشعور سبباً أساسياً في التغوّل الإسرائيلي والتفلّت من القيود المتعلّقة بالمساس بالمدنيين وبالخطوط الحمر للمواجهة في الإقليم. وبنتيجة هذه الحرب، استطاع الكيان أن يسوّق لفكرة القوة الفاعلة لـ "جيشه" من دون أن يتمكّن من تظهير نجاحه في فرض الهيمنة والسيطرة حيث ظهرت القوة الإسرائيلية محدودة بسبب مساحته الجغرافية الصغيرة التي تجعل من استهداف أرضه ذات فاعلية لا يمكن امتصاصها، وبسبب عدم قدرته على تشكيل الوعي الجماعي الشعبي في دول الجوار، من دون أن ننسى أنّ السبب في عدم ظهور شعور العالم بألم الكيان الاقتصادي نتيجة الحرب والحصار الذي كان مفروضاً على موانئه لم يكن بسبب متانة اقتصاده، وإنما بسبب الدعم الأميركي والغربي اللامحدود الذي تجاوز الـ 35 مليار دولار خلال سنتين.
وعليه، سيظهر أنّ اتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر التي تتجاوز قيمتها الـ 35 ملياراً ستشكّل مرتكزاً أساسياً في عملية إعادة ترميم الاقتصاد الإسرائيلي من خلال سرقة الغاز الفلسطيني من الأراضي التي أقرّتها المواثيق الدولية على أنها حقّ فلسطيني. فالكيان لا يلتزم في تنقيبه عن النفط بحدود 1967 ويرفض مجرّد تقبّل فكرة تعطي للشعب الفلسطيني جزءاً صغيراً من حقوقه.
في هذا الإطار، وبدل إصرار مصر على التمسّك بالحقّ الفلسطيني التاريخي أو بأقلّ تقدير التمسّك بالحقوق الفلسطينية التي أقرّتها المواثيق والقرارات الدولية، يظهر واضحاً أنّ الجانب المصري قد وافق ضمناً على التزامات أمنية في سيناء وقطاع غزة. فالمصالح الأمنية على حدود مصر، أي في منطقة قطاع غزة وجوارها، يمكن تحديدها بدقة وسهولة حيث ستلتزم الدولة المصرية بضمان أمن إمدادات الغاز مع ما تعنيه هذه المهمّة من ضرورة فرض واقع أمني مناسب للكيان في قطاع غزة وسيناء.
فإذا كان من الممكن القول إنّ الدولة المصرية قد نجحت في إفشال مخطط تهجير سكان القطاع إلى سيناء، وإن من خلال منعهم من اللجوء إلى سيناء بالقوة وتركهم يواجهون الموت المحتوم والإبادة خلف سياج حديدي يفصلهم عن مصر من دون أن تعمل على ممارسة ضغوط حقيقية توقف حرب الإبادة، فإنّ الواقع الحالي سيفترض دوراً مصرياً في إعادة تشكيل الوعي الجماعي لسكان القطاع تحت عنوان الحصار والتسليم والتخلّي عن المقاومة.
من ناحية أخرى، أمّنت الدولة المصرية من خلال هذه الاتفاقية للكيان الإسرائيلي مدخلاً يمكن من خلاله الاستمرار في الاعتداءات اليومية على القطاع، وحكماً لبنان وسوريا، وذلك من خلال فصل المسار الأمني الإقليمي عن تعميق العلاقات الاقتصادية والسياسية بينها وبينه. وإذا عطفنا ذلك على واقع العلاقات الإسرائيلية الخليجية وما يتمّ العمل عليه حالياً مع المملكة العربية السعودية، سيظهر واضحاً أنّ بنيامين نتنياهو قد خطا خطوة متقدّمة على طريق تحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى" بتمويل مصري يضاف إلى الغطاء السياسي الذي تقدّمه مصر وباقي دول التطبيع العربية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الاشراق وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً