السيادة والمصالح المتبادلة.. توجّهات ما بعد الانكفاء الأميركي
الاشراق | متابعة.
برز النموذج المقابل للنموذج الأميركي مستنداً إلى رؤية متكاملة من المبادئ التي راعت مصالح الدول وخصوصياتها السيادية.
بعد أكثر من ثلاثين عاماً واظبت خلالها الولايات المتحدة الأميركية على ترسيخ هيمنتها العالمية من خلال استراتيجية ثلاثية الأبعاد، ترتكز على السياسة والأمن أولاً والاقتصاد ثانياً والثقافة ثالثاً. بدأ العالم يشهد نوعاً من الانقلاب من خلال محاولة العودة إلى الأسس التي حكمت العلاقات الدولية منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية. فقد بدأت تظهر محاولات جدية لتكريس المصالح القومية والسيادة كمنطلقات حاكمة لعلاقات الدول فيما بينها.
وإذا كان متوقّعاً أن يشهد العالم هذا الانقلاب مباشرةً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وذلك كفرضية منطقية تقتضي انتفاء الحاجة للولايات المتحدة الأميركية وافتراض ضرورة التوازن في العلاقة معها، وبالتالي رفض مشروعها للهيمنة بعد انهيار القطب المواجه، أي الاتحاد السوفياتي، فإن المفارقة أن الولايات المتحدة الأميركية التي كانت بمثابة ضمانة لا بدّ منها في مواجهة الخطر السوفياتي قد نجحت في الحفاظ على موقعها في المرحلة اللاحقة، وذلك من خلال تكريس نفسها كمركز لعلاقات العالم السياسية والأمنية والاقتصادية، بحيث أنها كرّست يقيناً لدى الدول الأخرى بأن العلاقة معها ستضمن من المزايا ما لا تستطيع أن تضمنه من أي موقع آخر.
وإضافة إلى الموقع الذي مكّن الولايات المتحدة الأميركية من الظهور كحاجة حيوية للأمن العالمي، من خلال قوتها العسكرية وقدرتها على ضمان أمن واستقرار الدول الحليفة عبر التحالفات الجماعية والثنائية التي نسجتها، كحلف شمال الأطلسي وغيرها من الاتفاقيات الثنائية كمعاهدة كوينسي أو تلك التي تربطها بدول شرق آسيا وبعض الدول الأوروبية، فإن قدرة نظامها الرأسمالي على التحكّم بمسارات الاقتصاد العالمي، من خلال ما يملكه من أدوات كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها، قد أعطتها القدرة على قمع أي دولة، صديقة أم غير صديقة، من خلال ممارسة سياسة قمع اقتصادي، يمكن من خلالها إلزام تلك الدولة بالأنماط المناسبة للأمن القومي الأميركي.
في هذا الإطار، أمكن الملاحظة أن سياسة الترهيب والترغيب، التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية من أجل المحافظة على موقعها المهيمن، والتي يتمّ تنفيذها من خلال التعاون الاقتصادي والمساعدات الاقتصادية وشطب الديون أو إعادة جدولتها أو المقاطعة الاقتصادية والحظر الاقتصادي والعقوبات، ترتبط حصراً بمدى التزام سلوك الدولة المعنية بالتوجّهات والمصالح القومية الأميركية.
وفي هذا الإطار، يظهر واضحاً أن القرارات التي كانت تصدر عن مجلس الأمن أو توجّهات البنك الدولي أو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لم تكن تراعي الأهداف التي حدّدتها مواثيقها، وإنما كانت توافق توجّهات الولايات المتحدة الأميركية حصراً، مع الإشارة إلى النجاح الأميركي طيلة الفترة الماضية في إظهار المصلحة الأميركية على أنها مصلحة عالمية تتوافق مع المبادئ والأسس الليبرالية والديمقراطية والأمن الجماعي.
بالطبع، لم تكن القناعة بتحقيق المصالح القومية من خلال الأحادية الأميركية حصراً هي الدافع لالتزام الدول الحليفة بالمسار الأميركي، حيث لم تكن الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ جورج بوش الأب وصولاً إلى إدارة جون بايدن الحالية، محرجة في التعبير عن أهدافها الاستراتيجية المتمثّلة في كيفية الحفاظ على تفوّقها وضمان نظام أحادي عبر منع أي محاولة لتغيير قواعد النظام الدولي، وذلك من خلال التهديد باستخدام كل الوسائل الممكنة، ومن ضمنها القوة العسكرية إذا لزم الأمر.
فتصريحات رؤساء ومسؤولي الإدارات الأميركية المتعاقبة، والتي كانت متوافقة مع استراتيجيات الأمن القومي التي توالت منذ جورج بوش الأب قد ركّزت جميعها على كيفية مواجهة خطر تهديد النظام الدولي الأحادي الذي تقوده الولايات المتحدة، مع الإشارة إلى ما يؤمّنه هذا النظام من مزايا وحفظ للأمن القومي الأميركي.
وعليه، فإنّ التزام بعض الدول في الشرق الأوسط لم يكن بالضرورة نتيجة تقاطع مصالح، حيث إن تعميم فكرة الخطر الذي من الممكن أن تتعرّض له الدول الخليجية إذا تخلت عن علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة لم يكن واقعياً. فالاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط لم تكن قائمة على فكرة المصالح المتبادلة مع دول المنطقة، حيث أن الهدف من القواعد العسكرية والذي كان يتمحور في فترة الحرب الباردة حول حماية تلك الأنظمة من المد الشيوعي، لم يعد واقعياً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
وإذا عدنا إلى الفرضية الأميركية لناحية "محاربة الإرهاب" أو ردع الجمهورية الإسلامية، فإن الإرهاب الذي عصف ببعض الدول العربية لم يتعرّض لحلفاء الولايات المتحدة بالشكل الذي يستدعي تحريك الترسانة الأميركية المتمركزة في تلك الدول، كما أن الواقع قد أثبت أن الجمهورية الإسلامية لم تشكّل أي تهديد مباشر على أمن دول المنطقة، مع الإشارة إلى أنه في اللحظة التي كانت الولايات المتحدة تعمل على تكريس شيطنة الجمهورية الإسلامية في الوعي الخليجي، كانت تخوض معها غمار مفاوضات أسفرت عن توقيع اتفاق حول النووي عام 2015.
وإذا تعمّقنا في تحليل الأسباب التي زعزعت أمن المنطقة فسنجد أنها تستمد إطارها النظري من استراتيجية أوباما التي عبّرت عنها وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، حين أكدت أن بإمكان بلادها أن تدعم المحتجين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا مثل ما فعلت خلال "الربيع العربي".
بالعودة إلى ما كان يفترض أن يحصل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة لناحية أنه كلما قامت دولة عظمى وحاولت فرض سيطرتها في وجه الدول الصاعدة، فمن الطبيعي أن يقوم نظام من التحالفات لتحدي تلك القوة المهيمنة والتوازن معها. فقد أمكن لمس ذلك في الفترة الأخيرة، خصوصاً مع تركيز الولايات المتحدة على ضرورة احتواء الصين واستنزاف روسيا.
في هذا الإطار، برز النموذج المقابل للنموذج الأميركي مستنداً إلى رؤية متكاملة من المبادئ التي راعت مصالح الدول وخصوصياتها السيادية. فالرؤية الصينية أو حتى الروسية لطبيعة العلاقة مع الدول الصاعدة أو تلك المصنّفة كقوى إقليمية لا تتعارض مع مفاهيمها السيادية، ولا تقدّم نفسها كإطار يفرض ضرورة الالتزام باستراتيجياتها على حساب مصالحها القومية.
ومن الأسباب التي قد تكون وراء هذا التسارع في الخروج عن الطاعة الأميركية ظهور حالات من التعارض في الأهداف الاستراتيجية أو محاولة الضغط على تلك الدول بطريقة لا تراعي أدبيات التحالف والمصالح المشتركة.
فخطاب إدارة الرئيس بايدن تجاه المملكة العربية السعودية مثلاً، لم يدلّل على عمق علاقة استراتيجية، حيث تناسى أن ما قامت به بعض دول الخليج في الفترة السابقة، في اليمن أو سوريا، لم يكن إلا انعكاساً لتوجّهات دونالد ترامب وباراك أوباما. ولذلك، وجدت تلك الدول نفسها في موقع التابع أو الأداة التي لا وظيفة لها إلا تنفيذ ما تقرّره الإدارات الأميركية.
في هذا الإطار، لم تكن الرعاية الصينية للاتفاق السعودي الإيراني وكذلك الانفتاح العربي على سوريا إلا نتيجة قرار واقعي يستهدف تحقيق المصلحة القومية لدول المنطقة. فبعد أكثر من ثلاثة عقود، عادت دول المنطقة لتكرّس سيادتها في أعلى سلّم أولوياتها ولتبحث عمّا يمكن أن يحقّق مصالحها بعيداً عن أي اعتبار آخر.
ولأنّ المفهوم الصيني والروسي للعلاقات الخارجية لا يخرج عن إطار المصالح المتبادلة وقدسية مفهوم السيادة، حيث أنهما لا يتدخّلان في شؤون الدول الداخلية، لم تجد دول المنطقة أي حرج في الخروج على الطاعة الأميركية، مع الإشارة إلى أن السلوك الصيني تجاه تايوان والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كانا بمثابة رسالة تعكس جدية التوجّه لكسر قواعد الأحادية، مع ما يعنيه هذا الأمر من ضمانة بعدم قدرة الولايات المتحدة على الانتقام بطريقة مشابهة لما حصل مثلاً في العراق عامي 1992 و2003.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الآراء والتوصيفات المذكورة.