بعد الزلزال.. رؤية جيوسياسية إقليمية
بالطبع، لن تنحصر تداعيات الزلزال الأخير الذي ضرب بشكل أساسي كلاً من تركيا وسوريا ضمن إطار الدمار والخسائر البشرية التي لن تتمكن كلتا الدولتين من تقديرها أو تقييمها في وقت سريع. فالخسائر البشرية التي لن يُكشف عن رقمها الحقيقي في المدى المنظور، بالإضافة إلى الخسائر المادية التي طالت أكثر من عشر ولايات في تركيا وحولتها إلى مناطق منكوبة، أو في سوريا، حيث تصبح هذه التقديرات أكثر تعقيداً نتيجة ضعف الإمكانات التي سببها الحصار الأميركي والغربي والعربي، لن تكون السمة الوحيدة لهذا الزلزال.
فمجموعة من الشواهد والأحداث تظهر مجموعة من التفاعلات السياسية التي سترخي ظلالها على الواقع السياسي في كلتا الدولتين، بالإضافة إلى تغييرات جوهرية ستطال المعطى الجيوسياسي في المنطقة.
فعلى الصعيد التفاعل السياسي الداخلي لكلتا الدولتين المعنيتين، برزت مجموعة من المعطيات ذات التأثير الجذري، بحيث إن الرئيس التركي لم يتردد في توجيه اللوم إلى حكومته بسبب تقصيرها وبطء استجابتها فيما يخص معالجة نتائج الزلزال، بالإضافة إلى عدم استعدادها لكارثة كهذه. فالمعروف أن الواقع الجيولوجي للدولة التركية يجعل من الزلازل أمراً متوقعاً، بل حتى يمكن القول إنه حتمي.
وبمقارنة كيفية استجابة السلطات لما يمكن أن يحدث في دول كاليابان أو إندونيسيا أو غيرها، سيكون من الممكن القول إن الحكومة فشلت ولم تقم بواجبها في التحضير استباقياً لكارثة كهذه.
في هذا الإطار، يمكن القول إنه بمقارنة إمكانات الدولة التركية مع نظيرتها السورية، سيكون الموقف السوري أقل إحراجاً، بحيث تعاني الدولة حصاراً معقداً سببه ما يُعرف بقانون قيصر، بالإضافة إلى مقاطعة أكثر الدول الغربية والعربية للحكومة في سوريا تحت حجج، وإن كانت تستند إلى مفاهيم تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنها في الحقيقة تشكل تعبيراً عن مصالح وتناحر دولي بدءاً من عام 2011 ولم تنتهِ فصوله حتى اليوم.
لذلك، فإن ما يمكن أن يعانيه الحزب الحاكم في تركيا في الانتخابات المقبلة لن ينسحب على الحكم في سوريا. فالمعارضة التركية التي لم تنتظر لملمة تداعيات الزلزال، بدأت بإعداد ملف يُظهر تقصير الحكم في تركيا، وذلك في محاولة للتأثير في نتائج الانتخابات العامة المقبلة.
فهي ستسعى لتحويل هذه الكارثة إلى مادة للتصويب على الحكومة لناحية عدم قيامها بما يلزم لتطوير عملية الرقابة على النظام، معمارياً وهندسياً، على نحو يجعله موافقاً للشروط الضرورية التي قد تساعد على تحمل كوارث كهذه.
في هذا الإطار، سيذهب البعض إلى انتقاد اهتمام السلطة بالقضايا الإقليمية على حساب الأمن الوطني، بحيث برزت في الآونة الأخيرة آراء تركز على انتقاد الحكومة التي انشغلت بملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ثم انشغالها بمجالها الحيوي، من خلال الحرب في سوريا وقضية أذربيجان وأرمينيا ونفوذها في ليبيا وعلاقاتها باليونان، على حساب تحصين أمنها الداخلي.
أمّا لناحية الدولة السورية، فسيكون الواقع الذي تواجه تبعاته أسهل، بحيث إنها، في الدرجة الأولى، لا تسيطر على كامل الأراضي التي تدمرت بفعل الزلزال نتيجة القرار، إقليمياً ودولياً، بشأن دعم المجموعات المسلحة في الأقاليم الشمالية والكردية.
أما بالنسبة إلى المناطق التي تخضع لشرعيتها، فسيكون من السهل عليها أن تتخطى ضعف إمكاناتها المخصصة للتعاطي مع نتائج الزلزال اعتماداً على ما توافر لديها من دعم غير محدود تقدمه الدول الحليفة.
وعليه، فإذا كان من المنطقي القول إن الحكومة التركية لن تكون قادرة على حشد التأييد الشعبي بعد الذي حدث، مع أنها لن تفقد من حجم الولاء العام لها، فإن الدولة في سوريا ستكون قادرة على تثبيت شعبيتها وحشد تأييد بعض المحايدين، انطلاقاً من إمكان تظهير صحة خيارات السلطة فيها على رغم التدخلات الخارجية.
وإذا كان الواقع الداخلي لا يعكس حقيقة التأثر بنتائج الزلزال لناحية موازين القوى الداخلية، فستُظهر العلاقات الإقليمية تأثراً عميقاً لناحية مقاربتها انطلاقاً من المعطى الذي فرضته الحاجات الإنسانية. فالمسارعة الدولية إلى تقديم يد العون عبر إرسال بعثات إغاثة، بالإضافة إلى المساعدات العينية لكلا البلدين، دفعت في اتجاه تجاهل العقوبات الأحادية الأميركية على سوريا، بالإضافة إلى مسارعة بعض الدول، التي توترت علاقاتها بتركيا في الفترة الأخيرة، إلى تقديم يد العون إليها، مثل بعض الدول العربية واليونان.
يسود اعتقاد مفاده أن الكوارث الطبيعية قد تساعد على تكريس أسس التكامل بين الدول المتجاورة. فالتعافي من آثارها يحتاج عادة إلى فترات زمنية غير محددة. وعليه، يمكن القول إن هذا الواقع قد يضمن جنوحاً نحو التواصل والتعاون.
بالنسبة إلى تركيا، يمكن القول إنها، بفضل موقعها الجيوسياسي، ستكون أقدر على تكييف سياساتها الخارجية مع المعطيات التي استجدت في إثر الزلزال الأخير. فموقعها الوسطي في ظل الانقسام العمودي الذي خلفته العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بالإضافة إلى اعتبارها حاجة حيوية أوروبية في ظل أزمة إمدادات الطاقة إلى أوروبا، أمر يجعلها في موقع أفضل من موقع سوريا التي لن تستطيع في المدى المنظور أن تتخطى ذلك الانقسام.
فموقف القوى المعنية بمآلات العملية العسكرية في أوكرانيا لم يكن في المبدأ إلا انعكاساً لموقفها من أطراف النزاع في سوريا، بالإضافة إلى اعتبارها، لدى القوى الغربية وبعض الدول العربية، ساحة لتصفية الحسابات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكذلك مع روسيا.
في هذا الإطار، استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تتجنب إهانة كسر قانونها المشرّع لعقوبات معقدة على سوريا، من خلال إعلانها تعليقه مدة ستة أشهر، مع تأكيدها إعادة تفعيله مستقبلاً. غير أن مجموعة من الوقائع ستجعل إمكان استعادة هذه العقوبات لفعاليتها أمراً مستبعداً.
فالقرار التركي القاضي بإعادة تطبيع العلاقات بالدولة السورية، وإن كان اتُّخذ قبل وقوع الزلزال، سيتحول إلى حاجة حيوية للرئيس التركي من أجل عدم تمكين المعارضة من استغلال ورقة اللاجئين، التي ستتفاقم حتماً نتيجة تأثير الزلزال في مقدرات الدولة التركية، في الانتخابات المقبلة.
بالإضافة إلى ذلك، ستبرز الحاجة إلى تعاون أمني لردع أي محاولة لانتهاز فرصة انشغال الدولة التركية بلملمة تبعات الزلزال من أجل تنفيذ عمليات إرهابية. أما بالنسبة إلى الدول العربية، فإن المعطى الإنساني سيدفع في اتجاه تفعيل مبادرة الجزائر لإعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية، والتي تم تجميدها نتيجة التزام بعض الدول العربية القرار الغربي. فالاندفاع في اتجاه فتح قنوات التواصل مع الدولة السورية، تحت عناوين إنسانية، قد يؤدي إلى تمهيد الأرضية لتواصل سياسي أعمق.
وإذا كان من غير المتوقع أن تسير كل الدول العربية في ركب الانفتاح على سوريا، فإن جرأة بعض الدول، المنفتحة نسبياً، ستؤدي بسائر دول الجامعة العربية إلى الامتناع عن عرقلة هذا الانفتاح، على أقل تقدير.
وأخيراً، يمكن القول إن المرحلة المقبلة لن تشهد تشكل نموذج من علاقات التكامل بين تركيا وسوريا أو بين الدول العربية وسوريا، بحيث إنه لا يمكن تخطي نتائج أحد عشر عاماً من تدخلات تركية وعربية في سوريا. لكن الحتمي أن قناعة مفادها ضرورة التخلص من قيود المرحلة السابقة ستشكل معياراً لإعادة تنظيم العلاقة بين هذه الأطراف.
لا تتبنى الاشراق بالضرورة الاراء والتوصيفات المذكورة.